ترجعُ المزيّة في كل صورةٍ كلاميّة إلى أحدِ أمرين خارجين عن اللغة والكلام:
١- الاختيارُ العقليّ المطابقي.
٢- التصريفُ النفساني الإضافيّ.
والأول اختيارُ أبي عثمان الجاحظ، والثاني اختيارُ عبدالقاهر الجرجاني.
وبذلك يمكنُ تفسيرُ الآلة البلاغيّة التي كان علماء البلاغةِ يفكّرون في مزايا الكلامِ من خلالها بأنّها:
١- آلةٌ تعملُ على البلوغِ الإفهامي بالمطابقة.
٢- آلةٌ تعملُ على البلوغ الإفهامي بالتصريف النفساني.
ويختلفُ الإفهام بين المطابقة والتصريف النفساني إذ الإفهام في المطابقة لا يتحقق حتى يكون اللفظ مطابقًا للمعنى مما يدلُّ على مركزيّة المعاني ووجودها السابق للغة في الأذهان، وأنّ الجهل بها سببه عدم إدراك الإنسان للألفاظ المطابقة، وهذا يشير من جهةٍ أخرى إلى أنّ ناطقيّة الإنسان ناطقيةٌ لفظيّة، وأنّها تبدعُ كلما وضعت لفظًا مبتكرًا لمعنى موجود.
والإفهامُ في التصريف النفساني لا يتحقق حتى تضيف النفس معاني نحويّة بين الأوضاع اللغوية مما يشير إلى مركزيّة الأوضاع اللغويّة بقسميها الصوتيّ والمعنوي، وأنّ المعاني الموجودة في الكلام معانٍ منفصلة عن الخارج بل هي معان مصنوعة من مواد أوليّة، وصناعتها ليست ذهنيّة بل نفسانيّة، وهنا يصبحُ الفهم من خصائص النفس بخلاف ما هو عليه في المطابقة من كونه خصيصةً عقليّة تظهر بالاختيار اللفظي.
ويظهرُ من الآلة البلاغيّة في التصريف النفسانيّ أنّ الجهل سببه عدم إدراك الإضافات النفسانيّة بين الأوضاع اللغوية وهو الشيء الذي نبّه إليه عبد القاهر بأنه معاني النحو؛ لأنّها معانٍ تضاف إلى الأوضاع اللغوية لغرض الصناعة وتحقيق الابتكار بإضافةِ ما يمكِّنُ من إفهام حال النفس في صناعةِ تصريف الأوضاع اللغويّة، وهذا يدلُّ على أسبقيّة اللغة للمعاني، وانفصال المعاني الإضافيّة عن المعاني المطابقية.
وينبغي أنْ ننبه إلى فضلِ علماء البلاغة في وضع آلةٍ تمكّنهم من فهم الصور المنجزة وتحليل مواطن الإخبار فيها، وأنّ ذلك تمّ لهم بتوفيق الله تعالى ثم بحرصهم على أنْ ينطلقوا من إعجاز القرآن؛ لأنّ المعاني في القرآن معهودةٌ معروفة للإنسانيّة جمعاء، وأنّ الضعف الحاصل في عدم فهم وجه الإعجاز سببه قلةُ الألفاظ عند الجاهل بوجه الإعجاز مما يؤكِّدُ وجود خللٍ في الآلة البلاغيّة عنده؛ لأنّ هذه الآلة تمكّن صاحبها من هناك الحجاب دون الضمير وتمكنه من كشف المعنى بعد معرفةُ اللفظ المطابق ابتكارًا أو نقلا.
ومنطلق القائلين بوجود التصرُّفات النفسيّة وجدوا أنّ وجه الإعجاز لابد أنْ يكون منفصلا عن الاشتراك العام في المعاني حتى يتحقق عندهم انفصال الكيفيات الكلامية الإلهية عن الكيفيات الكلاميّة البشريّة، وبما أنّ الله تعالى تكلَّم في القرآن بالكافيار الكلاميّة البشريّة لكنها جاءت مختلفةً عن الكيفيات الكلامية البشريّة شكلا ظاهرًا وسياقًا متصلا تبيّن لهم أنّ الجاهل بوجه الإعجاز قد حصل له ذلك من قلّة الغذاء اللغوي وضعف المعرفة بتصريفات النفس البشرية للأوضاع اللغويّة، وأنّ أعلى مراتب تصريفاتها [أي: النفس] يظهرُ جليًّا في الشعر العربي، وكلّما كان الإنسان أفهم لشعر العرب ولتصرُّفات نفوسهم بالأوضاع اللغوية وطرقهم في إنتاج الكيفيات الكلاميّة كان أقرب لمعرفةِ دلائل الإعجاز وأقدر على فهم أسرار البلاغة.