بحث البلاغيون عن الآلةِ التي تنتج الكلام في الإنسان، ووضعوا لها اسم البيان والبلاغة، ثم اشتغلوا في طريقة عمل هذه الآلة المخلوقة في الإنسان ووضعوا في ذلك نظريتي: البيان والنظم.
وقد حددوا أنّها تعمل وفق مفهوم المطابقة الذي كان لكل منهم طريقته في تحديده، وكان سبيلهم في تحديد مفهوم المطابقة أنْ ينتجوا مفاهيم أخرى تساعدهم على كشف القناع، وهتك الحجاب، والاستدلال على تصريفات النفس.
ولم تكن المطابقة بين اللفظ والمعنى مطابقةً ساذجة، بل كان لهم فيها ذكاء يراعي العلاقة بين ما يؤمنون به من معتقدات، وما يشاهدونه من موجودات، وما يعيشون فيه من جماعات بشريّة، ولذلك طابقوا بين الألفاظ والمعاني من خلال الاختيار؛ لأنه معيار تحقق كلاميّة الكلام، أو طابقوا بين المعاني والمقتضيات وجعلوا اختيار الألفاظ طريقًا إلى وضع الصورة الكلاميّة التي هي دليل طريقة النفس في إنتاج الكلام.
والصورة الكلاميّة ليست شكلا واحدًا، بل هي ذلك الكلام الذي ينجز فيه الغرض بالكلمة التي تكون جوابًا عن سؤال سائل كقول النبي ﷺ جوابًا عن سؤال: ممّن القوم؟ فقال النبي ﷺ: "من ماء".
وقد تكون الصورة الكلاميّة أوسع من ذلك فتجمع إلى الوحدات اللغوية وحدات تأطيرية تقوم بمهمة ضبط الوحدات اللغوية ضمن أُطُرٍ تمسُّ هويّة المجتمع ومستواه في الوعي، وأثر التّحضُّر وعدمه على أُطُرِ الصورة الكلاميّة.
ويتراءى لي أننا نحتاج في تتبعنا طريقة علمائنا في وضع نظرياتهم عن الآلة البلاغيّة أنْ تكون دراساتنا ضمن سياقين: سياقٍ يهتمُّ بالمطابقة؛ لأنّها المعيار الذي حدد البلاغيون من خلاله موقع الكلام، وسياق آخر يدرسُ الصورة الكلاميّة التي تخدم الأغراض والأعراف وضوابط التكوين والتنظيم الاجتماعي.
والصورة الكلاميّة دليل تطابق الألفاظ مع المعاني أو تطابق المعاني مع المقتضيات، وما دامت دليلا فإنّ الدليل يمكن أنْ يكون كلمةً، أو جملةً، أو حديثًا، أو خبرًا، أو خطبةً، أو قصيدةً، أو قصّة، أو مسامرةً، أو مقالةً، أو كتابًا مؤلفًا.
ويظهرُ -في تقديري- أنّ النصّيّة شكلٌ وضعت لبنات دراسته منذ إشارة الجاحظ إلى الصورة الكلاميّة، وحديثه عن طريقة العرب في الخطابة، ثم تابعه عبد القاهر الجرجاني وجعلها نهايةَ الكلام وابتداء الاستدلال على الكلام النّفسي، وأنّ الكلام له صورةٌ مسموعة هي الصورة الكلاميّة التي تدلُّ على كلاميّة الكلام، وأشكال نشاط الآلة البلاغية.