انطلق التفكير البلاغي عند الجاحظ بجمع أجوبة سؤال: ما البلاغة؟ ثم انتقل من ذلك إلى بناء نظريّةٍ تشعرُ المتأمِّل لكلامه أنّ البلاغة آلةٌ من الآلات التي يحتضنها فكر الإنسان، وأنّها مصدرُ الكلام الذي صورته -على رأيه- تلك العبارات التي ننطق بها، وتقوم هذه الآلة على إنتاج البيان.
ومن أجل ذلك يمكننا أنْ نطرح السؤال التالي: كيف يتحقق بيان الجاحظ في قول الله تعالى: "ولا تقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرن"؟ حتى يتضح لنا حجم تلك الآلة وفائدتها.
ونقول جوابًا عن السؤال متوكلين على الله تعالى: تتحقق البيانية الجاحظيّة من خلال المطابقة التي ينكشفُ عملها بالاختيار؛ إذْ نجدُ أنَّ الفعل (تقرب) يأتي في اللغة مفتوح الراء (تقرَبُ) ومضمومها (تقرُب).
واختيارُ اللفظ (تقرَب) مفتوح الراء يدلُّ على أنّ المعنى المدلول عليه باللفظ هو الملابسة، أي: لا تلبسوا. وليس المعنى المدلول عليه باللفظ هو الدنو، أي: لا تدنوا، وهذا المعنى موجود عند المتكلمين أي: الملابسة والغشيان، واختيار لفظٍ يقعُ الاختلافُ فيه في حركة أحدِ حروفه لا يكون إلا معجزًا؛ لأنّ (تقرَبُ) فيه مزيد بيان على (تقرُب) فمفتوح الراء لا يكون فيه الغشيان والملابسة إلا بعد الدنو والاقتراب، ومضموم الراء يدلُّ على الدنو، ولو كان المنع منعًا من الدنو لصار ذلك نبذًا لهنَّ بشيء ليس في أيديهنَّ إيجاده أو منعه.
وقد نبَّه على هذا ابن العربي -رحمه الله- في (أحكام القرآن) حيثُ قال: سمعتُ الشيخ الإمام فخر الإسلام أبا بكر محمد بن أحمد الشاشي، وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة ومالكٌ في مجلس النظر، قال: يُقال في اللغة العربية: (لا تقرَب) كذا بفتح الراء، أي: لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضمِّ الراء كان معناه: لا تدنُ من الموضع. وهذا الذي قاله صحيحٌ مسموع".
وهنا ينبغي أنْ نتنبَّه إلى أنّ البيان عند الجاحظ لا يتحقق إلا بالاختيار المطابق للمعنى الملقى في الطريق، وهنا نجدُ معنى الملابسة معروفًا بين الناس، واختيار لفظِ (تقرَب) يحقق أمرين: منعًا من غشيان المرأة للجماع وقت الحيض، وتنبيهًا على أنّ الحيض لا يمنعُ من أيّ اقتراب مهما كان، وبذلك يصبحُ القرآن معجزًا لأنّ آلة البلاغة فيه تعمل بالبيان، والبيان لا يتحقق إلا بالمطابقة، والمطابقة لا تظهرُ إلا بالاختيار، والاختيار هو الذي يكشف قناع المعنى ويهتك الحجابَ دونَ الضمير.