استعمل ثلاث كلمات هي: الألفاظ، الكلم المفردة، معاني الألفاظ، فنفى المزيّة عن الألفاظ من جهة كونها حروفًا تتوالى وأصواتًا تُسمع، وهو هنا ينفي صفة الكلام لأنّ الكلام عنده نفسي.
ونفى المزيّة عن الكَلِمِ المفردة، أي: الكلمة المفردة عن التأليف؛ لأنّه يرى المزيّة في ترتيب الكلمة المفردة لا تكون كلامًا حتى تتصرّف فيها النفس بإضافة معاني النحو عليها مع أخواتها، وهو هنا ينتقلُ من الصوت المسموع والحروف المتوالية إلى أنّ الكلمة بمعناها لا بتوالي حروفها وسماع صوت الحروف؛ لأنّ ذلك ليس من الكلام النفسي، والكلمة المفردة هي معناها لا لفظها، تأمّل قوله: "إنْ شككت فتأمَّل: هل ترى لفظةً منها بحيث لو أُخِذَتْ من بين أخواتها وأفردتْ لأدَّت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟" إذن، الفصاحة وصف يلحق الكلمة التي هي المعنى لا الكلمة التي ننطقها وهي صورة المعنى، ولذلك لا يعتبر في الكلمة المفردة سوى أنها مألوفة أو غريبة، أو حروفها أخف وامتزاجها أحسن، والخفة والامتزاج في مستوى المعنى لا المستوى الذي هو صورة المعنى؛ لأنّ توالي الحروف وصوتها يطلق عليه اللفظ، ولا يطلق عليه كلمة.
جعل المزيّة في معاني الألفاظ بشرط أنّ ذلك يكون بملاءمة اللفظة بمعنى التي تليها، وشرطٍ آخر هو أنّ المزيّة في كل لفظةٍ قبل أنْ تكون صوتًا مسموعًا وحروفًا متوالية، ويسمي هذا صريح اللفظ، أي: صورة الكلمة لا حقيقتها.
ويتبيّن أنّ عبد القاهر لا يقول: ألفاظ الكلام؛ لأنّ الكلام معنى في النفس، ولا يقول: اللفظ إلا إذا أراد توالي الحروف والصوت المسموع، ولا يقول: كلم مفردة إلا إذا قصد معاني الألفاظ عند انفصالها عن التأليف، ولا يقول: صريح اللفظ إلا إذا قصد به توالي الحروف والصورة المنطوقة، ولا تكتسب الكلمة صفة الكلاميّة حتى تكون معنى يمكنُ وضعه في تأليف، وأنّ ما يتلاءم في الكلام هو المعاني لا صريحُ الألفاظ.
وهذا الفصل بين المنطوق الإنساني بكونه على ثلاث مستويات: لفظ، وكلمة مفردة، وكلمة منظومة يشعرُ أنّ الجرجانيّ يرجع المزيّة إلى المطابقة بين المعاني النفسيّة والمقتضيات المقامية، والتناسب يقع بين ما هو متّصلٌ بالنفس وما هو منفصلٌ عنها، على خلاف ما هو عند الجاحظ من كون البيان يقع في مطابقة اللفظ المعنى، أي: مناسبةِ ما هو متّصلٌ بالنفس بما هو متّصلٌ بالذهن.
ومن ذلك يظهرُ أنّ التناسب بين المعاني النفسيّة والمقتضيات المقامية دفع الجرجاني إلى عدم اعتبار اللفظ، بل وسلبه صفة الكلاميّة حتى يكون منزوعًا من كلام مؤلَّف، والتناسب بين الألفاظ والمعاني دفع الجاحظ إلى منح اللفظ صفة الكلاميّة إذا وافق معنى وطابقه.
وهنا يتبيّن أنّ بيان الجاحظ يمكن أنْ تبتكر فيه ألفاظ لمعانٍ خارجيّة تنشأ لها حاجة ملحّة، ولذلك نوّه بفضيلة المتكلمين الذي وضعوا ألفاظًا هم الذين اشتقوها وصاروا أئمّة لمن بعدهم كالهذيّة والهوية وأيس، أما الجرجاني فلا يظهرُ لي أنّ ذلك يلقى قبولا عنده؛ لأنّ الكلمة المفردة يعني بها أنْ تكون موروثةً مجاورةً غيرها في نص.