قال الجاحظ: "حتى كأنّ البيت بأسره كلمةٌ واحدة، وحتى كأنّ الكلمة بأسرها حرفٌ واحد"، وهذه العبارةُ الجاحظيّة مستخرجةٌ من رأي بشرٍ المعتزلي في أنّ الكلام لا يكون بليغًا حتى يُسابق لفظه معناه ويسابق معناه لفظه.
وهي كذلك من معدنِ قولِ صُحارٍ العبديّ عندما سئل عن البلاغةِ فقال: أنْ تجيبَ فلا تبطئ…
والعنصرُ الزائد في كلام الجاحظ أنْ يتّجه المتكلمُ إلى شدِّ الكلمات وإحكامِ تعليقها ببعض إحكامًا يتجاوزُ المعايير النحويّة إلى المحاسن الصوتيّة؛ لأنّ حسن صوت الحروف جزء من معاني الكلمة، والكلام لا يُبنى إلا من مجموع الكلمات.
ولو أردت التّأمّل لدللتُكَ على كلمتين تشعرُ فرقٌ ما بينهما في الصوت وهما: (العشق)، و(الحُبّ)، وقد بحثتُ في الشعر المتقدِّم فلم أجد لكلمةِ العشق دورانًا كما هو الحال مع كلمة الحُبّ، بل إن النصوص الشرعيّة في القرآن والسنة وردت فيها كلمة (الحُبّ) دون (العشق)، وهذا أمرٌ يدعوك إلى تأمُّل أثرِ أصوات حروف الكلمة في بناء الانسجام داخل الكلام مع المحافظة على دقَّة الوصف لا دقّة الرسم.
وعبارة الجاحظ المتقدّمة جاءت في سياق حديثه عن حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر، وأوكدُ ما في حديث الجاحظ أنّ البلاغة ينبغي أنْ تكون بلاغةً نامية لا جامدة، متصلةً بما تميلُ إليه طبائع الإنسان في كل زمان وما تغرسه البيئة في نفسه، وأهمّ ما في ذلك أنْ يكون الكلام البليغ خفيفًا على اللسان ليخفَّ حمله فـي الأذهان، وتزدان به مجالسُ الخُلان.
١/ ١/ ١٤٤٣
٩/ ٨/ ٢٠٢١