يقسم الجاحظ الأمم المعتبر نظرها في صناعةِ الكلام إلى أربع أمم هي على الترتيب: العرب، والفرس، والهند، والروم. وهذه الأمم الأربعةُ تتحقق فيها الخصيصة الإنسانية العموميّة؛ لأنها أمم ليس فيها انكفاء على نفسها، وليس في أرضها ما يمنع غيرها من مشاركتها السكن، وليس في تاريخها ما يدلّ على أنها مغلوبة على الدوام، ولذلك تنتفي عنها صفة الهمجيّة. على أنّ الهمجيّة مفهوم لا يقف عند الأمم في فكر الجاحظ، بل يلحقُ أصحاب المهن الذين يعملون بالأُجرةِ لكل أحد دون قيد أو شرط سوى شرط الربح، وتلحقُ أصحاب الجزائر في البحار، وسكان الجبال؛ لعدم تحقق إمكانية العبور الحضاريّ بسبب عدم صلاحها للسكن اختيارًا، بل هي من أماكن الاضطرار. هذا التقسيم للأمم والمهن بين الهمجيّة والنخبوية يظهرُ منه أنّ الجاحظ يجدُ في لغة البشر...
فضّل الجاحظ طريقة الكُتّاب في البلاغة بأنهم "التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّرًا وحشيًّا ولا ساقطًا سوقيًّا"، في إشارةً يتراءى لي منها أنَّه يومئ إلى إنتاج ما تكونُ لك به السيادة، وما يحكم لك بعد تقليده بالريادة. وأهمُّ ما في كلام الجاحظ أنّه يشيرُ إلى أنّ من علامات الإبداع أنْ ينتج المرء ما لا يميل إلى سابق أو حاضرٍ، أي: أنْ يبتدع طريقًا جديدًا لا يقلِّدُ فيها من سبق ولا يسقط بها مع مَنْ سقط. وثناء الجاحظ على الكُتّاب ينتمي إلى البلاغة الإفهاميّة التي اعتنى بها منذ أنْ اطَّلع على صحيفة بشر بن المعتمر، واتصل بعمرو بن عبيد وكلاهما من رؤوس المعتزلة، وهذا يعني أنّ مذهب الإبداع عند المعتزلة يتغيّى التّوسطَ بين ما وجدوه عند من سبق، وما يعيشونه في حياتهم اليوميّة، ولأنّهم يريدون أنْ يحققوا...