يقسم الجاحظ الأمم المعتبر نظرها في صناعةِ الكلام إلى أربع أمم هي على الترتيب: العرب، والفرس، والهند، والروم. وهذه الأمم الأربعةُ تتحقق فيها الخصيصة الإنسانية العموميّة؛ لأنها أمم ليس فيها انكفاء على نفسها، وليس في أرضها ما يمنع غيرها من مشاركتها السكن، وليس في تاريخها ما يدلّ على أنها مغلوبة على الدوام، ولذلك تنتفي عنها صفة الهمجيّة.

على أنّ الهمجيّة مفهوم لا يقف عند الأمم في فكر الجاحظ، بل يلحقُ أصحاب المهن الذين يعملون بالأُجرةِ لكل أحد دون قيد أو شرط سوى شرط الربح، وتلحقُ أصحاب الجزائر في البحار، وسكان الجبال؛ لعدم تحقق إمكانية العبور الحضاريّ بسبب عدم صلاحها للسكن اختيارًا، بل هي من أماكن الاضطرار.

هذا التقسيم للأمم والمهن بين الهمجيّة والنخبوية يظهرُ منه أنّ الجاحظ يجدُ في لغة البشر ثلاثة أنواع هي: لغة الإلمام وهي التي يمكن أنْ تستعمل في قضاء احتياجات اليومِ والليلة، ويمكن أنْ تكون صورةً على لوحة إرشادية، ويمكن أنْ تكون إشارةً باليد أو العين، ويمكن أنْ تكون بالحال دون المقال.

واللغة الثانية هي لغةُ الإفهام التي يكون بها التفاوض والتثاقف والنقل المعرفي والتعليم والتعلُّم والإبلاغ وهي من لغة الأمم النخبويّة التي تناسبُ العامّة، وهي أكثرُ وضوحًا عند العرب لأنّ العرب تتفاوت لغتهم بين بلاغة الإفهام وبلاغة البيان، وتتفاوت لغة الإفهام بين نقل الإفادة أو تمكينها، ولذلك نجد الجاحظ يقول: "وأما العوامُّ من أهل ملّتنا ودعوتنا ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة منا، على أنّ الخاصة تتفاوت في طبقات أيضًا".

وفي تفضيل الجاحظ عوام العرب على المنتخبين من أمم الناس إشارةٌ إلى أنّ ارتفاع عوام أمّة العرب عن غيرهم كان بالأخلاق لاشتراكهم مع غيرهم في القوّة العقليّة، إلا أنّ القوّة العقليّة في عوام العرب لم تصل بهم إلى الطبقة الخاصّة التي تخلق لغتها البيانية ومصطلحاتها الكلامية التي تكون بها سلفًا لكل خلف، وسابقةً لكل لاحق، ورائدةً قبل كل باحث أو رائد، ولعل لغة الخاصة هي اللغة البيانية التي يومئ إليها الجاحظ؛ لأنّه يتحقق فيها ما يتحقق في لغة الشعر من وجوب اختيار ما يناسب النوع الكلامي، ويحقق الامتياز الجنسي، ويرتفعُ عن طبقة العامة، وينفصل عن أصوات الهمج وخصائصهم.

تاريخ النشر
06 جمادى الآخر 1445
تاريخ أخر تعديل
06 جمادى الآخر 1445
التقييم