يتراءى لي أنّ اهتمام المعتزلة بالبلاغة كان بسبب ما فهموه من الإعجاز في القرآن الكريم، وذلك أنّ الله تعالى تكلَّم بمعانٍ وألفاظٍ هي مما ألفه البشر بينهم وتكلموا به، وبان منهم الكلام بمثل القرآن. وهذا الأمرُ أشار إليه بشر بن المعتمر في صحيفته، أعني: أن تفهم معاني الخاصةِ بألفاظ العامّة، وأنْ تتسابق المعاني نحو القلوب تسابق الألفاظ نحو الأسماع. وكانت فكرةُ النقل بين الطبقات هي الأساس الذي دار عليه كتاب الجاحظ: البيان والتبيين، وزاد عليها أنّه نقل جواب كلثوم بن عمرو العتّابي عن سؤال: ما البلاغة؟ وشرح جوابه بأنّ ما زعمه العتّابي من أنّ البلاغة هي إفهام حاجتك مخاطبك ليس على الإطلاق، بل المقصود عند العتّابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء. وهذه الزيادة عند الجاحظ وعي آخر استفاده من...
مما يمكن أنْ يكون من بلاغةِ الترويع في القرآن ما جاء في (آل عمران: ٨) من دعاء الراسخين في العلم: {ربنا لا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}، أي: لا تُمِلها عن الهَوَى والقَصْد كما أزغتَ قلوب اليهود والنصارى والذين في قلوبهم زيغ. (الواحدي: ١/ ٤١٥). وتُشعِرُ الآيةُ القلبَ أنّ الأمر كله بيد الله تعالى هدايةً وغيرها، وهذا مما يبلغُ به التّرويع منتهاه حتى لا يقعَ في القلب أنّ إرادة العبد مستقلّةٌ عن إرادة الله تعالى، وحتى يتعلَّم العبدُ أنّ الدعاء لا يكون بالخير فقط بل به وبالعصمة من ضدِّه. وجاء تفسير العلم بالمجازاة في قول الله تعالى: {قل إنْ تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير} آل عمران:٢٩، وهذا من المجاز المرسل الذي علاقته المسببيّة؛ لأنّ الجزاء...
استعمل ثلاث كلمات هي: الألفاظ، الكلم المفردة، معاني الألفاظ، فنفى المزيّة عن الألفاظ من جهة كونها حروفًا تتوالى وأصواتًا تُسمع، وهو هنا ينفي صفة الكلام لأنّ الكلام عنده نفسي. ونفى المزيّة عن الكَلِمِ المفردة، أي: الكلمة المفردة عن التأليف؛ لأنّه يرى المزيّة في ترتيب الكلمة المفردة لا تكون كلامًا حتى تتصرّف فيها النفس بإضافة معاني النحو عليها مع أخواتها، وهو هنا ينتقلُ من الصوت المسموع والحروف المتوالية إلى أنّ الكلمة بمعناها لا بتوالي حروفها وسماع صوت الحروف؛ لأنّ ذلك ليس من الكلام النفسي، والكلمة المفردة هي معناها لا لفظها، تأمّل قوله: "إنْ شككت فتأمَّل: هل ترى لفظةً منها بحيث لو أُخِذَتْ من بين أخواتها وأفردتْ لأدَّت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟" إذن، الفصاحة وصف يلحق الكلمة...
انطلق التفكير البلاغي عند الجاحظ بجمع أجوبة سؤال: ما البلاغة؟ ثم انتقل من ذلك إلى بناء نظريّةٍ تشعرُ المتأمِّل لكلامه أنّ البلاغة آلةٌ من الآلات التي يحتضنها فكر الإنسان، وأنّها مصدرُ الكلام الذي صورته -على رأيه- تلك العبارات التي ننطق بها، وتقوم هذه الآلة على إنتاج البيان. ومن أجل ذلك يمكننا أنْ نطرح السؤال التالي: كيف يتحقق بيان الجاحظ في قول الله تعالى: "ولا تقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرن"؟ حتى يتضح لنا حجم تلك الآلة وفائدتها. ونقول جوابًا عن السؤال متوكلين على الله تعالى: تتحقق البيانية الجاحظيّة من خلال المطابقة التي ينكشفُ عملها بالاختيار؛ إذْ نجدُ أنَّ الفعل (تقرب) يأتي في اللغة مفتوح الراء (تقرَبُ) ومضمومها (تقرُب). واختيارُ اللفظ (تقرَب) مفتوح الراء يدلُّ على أنّ المعنى المدلول عليه...
تنتظم نظريّة النظم التي وضعها عبد القاهر الجرجاني أربعة أركان: ١- الحال أو المقام. ٢- مقتضى الحال. ٣- الكلام. ٤- صورة الكلام أو العبارة عن الكلام. والعملُ النظمي يقوم بين الثاني والثالث من خلال المطابقة؛ لأنّ المقتضى يوجد في الذهن والكلام يوجد في النفس، وإذا كان النظم صناعةً في المعنى المسمّى عندهم كلامًا فإنّ المواد التي تحتاجها صناعةُ الكلام ما يلي: ١- الأوضاع اللغويّة. ٢- الغرض. ٣- المعاني النحويّة. ٤- المقتضى. ٥- التصريف النفسي أو الترتيب النفسي. وعند دخول هذه المواد وصنعِ المعنى الإضافي الذي يكون نتيجة جمع الأوضاع اللغوية مع المعاني النحويّة، وهذا المعنى الإضافي هو الثمرةُ والمطلوب الذي يريده المقتضى، وتشترطُ فيه المطابقة. وإذا كان ذلك كذلك فإنّ التزام المتكلم بمواد صناعةِ الكلام ينتج...
بحث البلاغيون عن الآلةِ التي تنتج الكلام في الإنسان، ووضعوا لها اسم البيان والبلاغة، ثم اشتغلوا في طريقة عمل هذه الآلة المخلوقة في الإنسان ووضعوا في ذلك نظريتي: البيان والنظم. ‫ وقد حددوا أنّها تعمل وفق مفهوم المطابقة الذي كان لكل منهم طريقته في تحديده، وكان سبيلهم في تحديد مفهوم المطابقة أنْ ينتجوا مفاهيم أخرى تساعدهم على كشف القناع، وهتك الحجاب، والاستدلال على تصريفات النفس. ‫ ولم تكن المطابقة بين اللفظ والمعنى مطابقةً ساذجة، بل كان لهم فيها ذكاء يراعي العلاقة بين ما يؤمنون به من معتقدات، وما يشاهدونه من موجودات، وما يعيشون فيه من جماعات بشريّة، ولذلك طابقوا بين الألفاظ والمعاني من خلال الاختيار؛ لأنه معيار تحقق كلاميّة الكلام، أو طابقوا بين المعاني والمقتضيات وجعلوا اختيار الألفاظ طريقًا...
قالوا في تعريف البلاغة أنها: مطابقة الكلام مقتضى الحال مع فصاحته. والمطابقة من مفاهيم الجاحظ في البيان والتبيين، وهي كون اللفظ موافقًا للمعنى دالا عليه، فمطابقة المنطوق (اللفظ) المعنى، هي: دلالته عليه، أما المطابقة في النظم فهي كون الكلام (المعنى القائم بالنفس) مطابقًا لمفهوم الحال الخارجيّة وهو مقتضاها، فإذا كانت الحال تكذيبًا اقتضت أنْ يكون الكلام (المعنى القائم بالنفس) مؤكَّدًا، ولا سبيل إلى ظهور مطابقة المقتضى إلا بالتراكيب اللفظيّة التي هي صورةُ المعنى أي: صورة الكلام وليست الكلام، ولذلك جعلت مؤشرًا على تغيّر المعنى القائم بالنفس، أي: إنّ التغيّر في صورة المعنى أو العبارة، أو صورة الكلام مستمدٌّ من التغيّر في المعنى القائم بالنفس أو المسمّى كلامًا. وهذا التّغيُّر سببه البحث عن مطابقة...