مما يهمّ في هذا المسار التنبُّه إلى وجهة نظر عبد القاهر عن الكلمة؛ إذ هي فيما يرى نائبةٌ عن الشيء الذي تشيرُ إليه، وهنا يظهرُ جزء من الثلاثية الجرجانية، وهو: الشيء المتكوّن في الواقع الذي يمكن الإشارةُ إليه. ‫ ومما يشعرُ به ذلك أنّ الكلمة المفردةَ لا تنشأ بلا علاقةٍ إشاريّة تصلها بالشيء المتكوّن في الواقع الخارجي المحيط بالإنسان، ولذلك تصبح الكلمة المفردة ذات ثلاثة رؤوس: الشيء الخارجي المشار إليه، الكلمة في الذهن بوصفها تصورًا إشاريًّا نائبًا عن معلوم، والكلمة في الصوت بوصفها لفظًا منطوقًا.، وكأنّه يقول: إنّ الشيء لا يكون موجودًا بالكلمة بل هو سابق لها إلا أنّ المواضعة تسهم في إشاريّة الكلمات للمعلوم المتصوّر معنى في الأذهان. ‫ وهنا تظهر لنا المرحلة الأولى من نظريةِ النظم وهي مرحلة أوليّة...
تُشعِر عناية البلاغيين بالمطابقة بين الكلام والحال أنّ الإنسان يعيش مرتين: مرة في واقعه، ومرةً في لغته، وثنائيّة العالم الإنساني الواقعي واللغوي تفسِّرُ كثيرًا مما نجده من اختلافات بين ما نراه وما نسمعه؛ لأنّ الرؤية جزء من الواقع والسماع جزء من اللغة. ومن هذه القيمة لمبدأ المطابقة نظر البلاغيون إلى البديع بوصفه عالمًا لغويًّا ينقصه وجود مبدأ المطابقة، ولا يحظى بحكم الإجادة من فنون البديع إلا ما أشعر باتصاله بالعالم الواقعي؛ لأنّه حينها يؤدّي عملا في تحقيق مبدأ المطابقة. وهنا يبتدرني سؤال: أين يمكنك أنْ تضع المعنى عندما قسمت العالم الإنساني إلى عالم واقعي وعالم لغوي؟ وأشعرُ أنني إذا وضعتُ المعنى في العالم الواقعي كنتُ أكثر اتفاقًا مع قول البلاغيين في تعريف البلاغة: مطابقة الكلام مقتضى الحال...
انطلق د. إبراهيم الخولي من قاعدةً وضعها في أولِ حديثه عن طريقة إثبات الدعوى في البحوث العلميّة التي تبحث في الصلات الثقافية بين الأمم، وهذه القاعدة تقول: "إنّ الحكم بتأثر ثقافةٍ بثقافة، أو أدبٍ بأدب، أو نقد بنقد، أو بيان ببيان لا يكفي فيه قيام الصلة التاريخية بين الطرفين". (الخولي: ٥١) ثم بيّن موقفه من طريقة إثبات الدعوى وأنّها لا تقف على ملاحظة الصلة التاريخية، بل إنّ لـهـا أصولا أخرى أكثر من ملاحظة الصلة التاريخية، وهذه الأصول هي: ١-الصلة التاريخية شرطٌ لإثبات الدعوى بتأثر الثقافات ببعضها، وأنّ هذه الصلة أول ما يمكن الابتداء به للاطمئنان إلى سلامة الحكم. ٢-تفسير الظاهرة الملحوظة في إطار بيئتها، ومعنى ذلك أنْ يقوم الباحث بالبحث عن عوامل نشأة الظاهرة والأسباب التي مهّدت لذلك في بيئتها. وقد...
يقسم الجاحظ الأمم المعتبر نظرها في صناعةِ الكلام إلى أربع أمم هي على الترتيب: العرب، والفرس، والهند، والروم. وهذه الأمم الأربعةُ تتحقق فيها الخصيصة الإنسانية العموميّة؛ لأنها أمم ليس فيها انكفاء على نفسها، وليس في أرضها ما يمنع غيرها من مشاركتها السكن، وليس في تاريخها ما يدلّ على أنها مغلوبة على الدوام، ولذلك تنتفي عنها صفة الهمجيّة. على أنّ الهمجيّة مفهوم لا يقف عند الأمم في فكر الجاحظ، بل يلحقُ أصحاب المهن الذين يعملون بالأُجرةِ لكل أحد دون قيد أو شرط سوى شرط الربح، وتلحقُ أصحاب الجزائر في البحار، وسكان الجبال؛ لعدم تحقق إمكانية العبور الحضاريّ بسبب عدم صلاحها للسكن اختيارًا، بل هي من أماكن الاضطرار. هذا التقسيم للأمم والمهن بين الهمجيّة والنخبوية يظهرُ منه أنّ الجاحظ يجدُ في لغة البشر...
فضّل الجاحظ طريقة الكُتّاب في البلاغة بأنهم "التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّرًا وحشيًّا ولا ساقطًا سوقيًّا"، في إشارةً يتراءى لي منها أنَّه يومئ إلى إنتاج ما تكونُ لك به السيادة، وما يحكم لك بعد تقليده بالريادة. وأهمُّ ما في كلام الجاحظ أنّه يشيرُ إلى أنّ من علامات الإبداع أنْ ينتج المرء ما لا يميل إلى سابق أو حاضرٍ، أي: أنْ يبتدع طريقًا جديدًا لا يقلِّدُ فيها من سبق ولا يسقط بها مع مَنْ سقط. وثناء الجاحظ على الكُتّاب ينتمي إلى البلاغة الإفهاميّة التي اعتنى بها منذ أنْ اطَّلع على صحيفة بشر بن المعتمر، واتصل بعمرو بن عبيد وكلاهما من رؤوس المعتزلة، وهذا يعني أنّ مذهب الإبداع عند المعتزلة يتغيّى التّوسطَ بين ما وجدوه عند من سبق، وما يعيشونه في حياتهم اليوميّة، ولأنّهم يريدون أنْ يحققوا...
كان الجاحظ يلاحقُ الإجابات عن سؤال: ما البلاغة؟ مثل ملاحقته الاحتمالات المطروحة لتعليل تحريم لحم الخنزير، ومما أثاره في السؤال أنّه لا إجابة يمكن التّحقق من ثبوتها، ولذلك كانت البلاغة إمّا: - شيئا (انفعالا) تجيش به الصدور. - أو آلةً تنتقل في الدهور. - أو صمتًا حين يجب السكوت. - أو إفهامًا لشيء ليس من المعاني والألفاظ ولا يظهرُ إلا بها. - أو سطوةً على الحياة بإدراك لوازم الأفكار. وأميلُ إلى أنّه كان يجد راحةً في الصمت؛ لأنّه وجد في الإيجاز صوتًا وصمتًا، وأورد في ذلك جواب صحارٍ العبديّ: أن تجيب فلا تبطئ وتقول فلا تخطئ، ثم انتبه صحارٌ لطول صوته فأعاده أوجز من الذي سبقه قائلا: لا تبطئ ولا تخطئ. وكثيرٌ من الحذف إيجاز، وكثيرٌ من التكثيف إيجاز، وكثيرٌ من الصمت بلاغة؛ لأنّ عمرو بن عبيد يرى في طول...
يتراءى لي أنّ اهتمام المعتزلة بالبلاغة كان بسبب ما فهموه من الإعجاز في القرآن الكريم، وذلك أنّ الله تعالى تكلَّم بمعانٍ وألفاظٍ هي مما ألفه البشر بينهم وتكلموا به، وبان منهم الكلام بمثل القرآن. وهذا الأمرُ أشار إليه بشر بن المعتمر في صحيفته، أعني: أن تفهم معاني الخاصةِ بألفاظ العامّة، وأنْ تتسابق المعاني نحو القلوب تسابق الألفاظ نحو الأسماع. وكانت فكرةُ النقل بين الطبقات هي الأساس الذي دار عليه كتاب الجاحظ: البيان والتبيين، وزاد عليها أنّه نقل جواب كلثوم بن عمرو العتّابي عن سؤال: ما البلاغة؟ وشرح جوابه بأنّ ما زعمه العتّابي من أنّ البلاغة هي إفهام حاجتك مخاطبك ليس على الإطلاق، بل المقصود عند العتّابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء. وهذه الزيادة عند الجاحظ وعي آخر استفاده من...
يبدو أنّ البلاغة الإفهامية قد أخذت على الجاحظ عقله، وليس ذاك لأنّها أحقّ من غيرها باسم البلاغة، بل لأنّها الأجدر بالمقامات التعليمية، والمواقف الاتصالية، والإنشاءات التي تجذب النَّظارة، وهي مع الإفهام تحفظ حدود الطبقات الاجتماعية، وتعدُّ من المشترك الإنسانيّ الذي لا يفلتُ من حقيقته الإنسان وإنْ كان يمكنه أنْ يلبس مما يتصلُ بها ما يكشف عما يمتاز به من غيره كالصوف الذي تصنع منه الثياب فحقيقته واحدة لكنّ أشكاله المنسوجة متنوعة. ولا تعني البلاغة الإفهامية أنْ يرتقي الممارس لها بالمستمع إلى طبقته؛ لأنّها تفصل بين الطبقات الاجتماعية، وترى أنّ لكل طبقة ما يشغلها عن أنْ تكون مفارقةً لما هي عليه، والانتقال من طبقة المتلقي إلى طبقةِ الملقي يعني تعطُّلَ الحياة، وليس الهدف في البلاغة الإفهامية أنْ نصنع...
كل عمليّة فهم إما أنْ تبدأ من الحال، ثم المقتضى، ثم إنشاء الكلام، أو أنْ تبدأ من الكلام، ثم المقتضى، ثم الحال، وهي في الأولى مطابقةٌ حال المقتضى، وفي الثانية تفهّم حال المقتضى. والسؤال المنتظر هنا: أين تقع البلاغة الإفهامية؟ وللجواب على ذلك أقول: إنها تقع في المرحلة الأولى؛ لأنّها المرحلةُ التي يلحظها المتكلِّم الذي ينوي نقل المعنى إلى الطبقة الجديدة، وهذه المرحلة لابد أنْ تكون المعاني على أقدار المستمعين، وأنْ تلبس من الألفاظ ما هو مستعملٌ ومتداولٌ بينهم، وأنْ ينزل المتن اللغويّ فيها إلى المستوى اللفظي الذي عليه أصحابُ الطّبقة، وأنْ تتسابق المعاني فيه مع الألفاظ، ومن مقتضيات المسابقة أنْ تكون معاني الخاصّة بألفاظ العامّة. وتقع في المرحلة الثانية البلاغةُ البيانية التي تتجاوز حدود الإفهام...