فضّل الجاحظ طريقة الكُتّاب في البلاغة بأنهم "التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّرًا وحشيًّا ولا ساقطًا سوقيًّا"، في إشارةً يتراءى لي منها أنَّه يومئ إلى إنتاج ما تكونُ لك به السيادة، وما يحكم لك بعد تقليده بالريادة.

وأهمُّ ما في كلام الجاحظ أنّه يشيرُ إلى أنّ من علامات الإبداع أنْ ينتج المرء ما لا يميل إلى سابق أو حاضرٍ، أي: أنْ يبتدع طريقًا جديدًا لا يقلِّدُ فيها من سبق ولا يسقط بها مع مَنْ سقط.

وثناء الجاحظ على الكُتّاب ينتمي إلى البلاغة الإفهاميّة التي اعتنى بها منذ أنْ اطَّلع على صحيفة بشر بن المعتمر، واتصل بعمرو بن عبيد وكلاهما من رؤوس المعتزلة، وهذا يعني أنّ مذهب الإبداع عند المعتزلة يتغيّى التّوسطَ بين ما وجدوه عند من سبق، وما يعيشونه في حياتهم اليوميّة، ولأنّهم يريدون أنْ يحققوا انتشارًا يحفظُ لهم خاصّتهم، وينفعُ عامتهم أدركوا بذوقهم أنّ اللسان البشري ينبغي له ألا يفقد هويته ولا ينكفئ على نفسه؛ لأنّ مقتضى الحياة البشرية على الأرض موجود في قول الله تعالى: "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا".

وفي ثناء الجاحظ يظهرُ أنَّ البلاغة الإفهاميّة ينبغي لها أنْ تأخذ من الألفاظِ ما لا يأنفُ منه الكبير ولا يصعب على الصغير؛ لأنّ البلاغةَ الإفهاميّة تهتمُّ بالنقلِ المعرفيّ الذي يتميّزُ بالعمومية، بل ربّما نقول: الأممية أكثر من اهتمامها بما يدلُّ على الهويّة، ويظهر جوانب التفوق اللغوي.

إذن، نجد في البلاغةِ الإفهاميّة عند الجاحظ شرحًا لفكرة: المعاني ملقاةٌ في الطريق… وكون الشأنِ في اختيار اللفظ يفتحُ السؤال على اختيار ألفاظٍ يمكنها أنْ تنتقل بين الطبقات الاجتماعية داخل ثقافةٍ لغوية واحدة، ويمكن نقلها إلى ثقافةٍ لغوية أخرى دون أنْ يعسر على المترجم النقل أو يضعف مقدار الإفهام بطول الكلام.

واهتمام الجاحظ بلغةِ الكُتّاب يدلُّ على أنّ المقياس الذي وضعه للغة البلاغةِ الإفهاميّة يقف وسطًا بين لغةٍ يجدها على رؤوس الجبال نائيَةً عن مقتضيات التمدُّن الجديدة، ولغةٍ تطؤها ألسنةُ مرتادي الأسواق حتى إنها لا تصلحُ أنْ تكون قالبًا لمعنى خاصٍّ يميزُ الفكرة وصاحبها، ويحمي الكلام عن أنْ يُترك لوحشيّته أو لسوقيّته.

٥/ ١/ ١٤٤٣

١٣/ ٨/ ٢٠٢١

تاريخ النشر
08 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
08 ربيع الثاني 1445
التقييم