يبدو أنّ البلاغة الإفهامية قد أخذت على الجاحظ عقله، وليس ذاك لأنّها أحقّ من غيرها باسم البلاغة، بل لأنّها الأجدر بالمقامات التعليمية، والمواقف الاتصالية، والإنشاءات التي تجذب النَّظارة، وهي مع الإفهام تحفظ حدود الطبقات الاجتماعية، وتعدُّ من المشترك الإنسانيّ الذي لا يفلتُ من حقيقته الإنسان وإنْ كان يمكنه أنْ يلبس مما يتصلُ بها ما يكشف عما يمتاز به من غيره كالصوف الذي تصنع منه الثياب فحقيقته واحدة لكنّ أشكاله المنسوجة متنوعة.

ولا تعني البلاغة الإفهامية أنْ يرتقي الممارس لها بالمستمع إلى طبقته؛ لأنّها تفصل بين الطبقات الاجتماعية، وترى أنّ لكل طبقة ما يشغلها عن أنْ تكون مفارقةً لما هي عليه، والانتقال من طبقة المتلقي إلى طبقةِ الملقي يعني تعطُّلَ الحياة، وليس الهدف في البلاغة الإفهامية أنْ نصنع إنسانًا جديدًا، بل أنْ نزرعَ وعيًا واحدًا في الطبقات الاجتماعية لا تكون الاختلافات فيه إلا بطرق التعبير عنه لا بالاختلاف في حقيقته.

وهذه البلاغةُ الإفهامية تحتاجُ إلى فقه الدعوة، ومن فقه الدعوة أنْ يؤمن الجميع بالفكرة الخاصّة ولو اختلفت تعبيراتهم عنها؛ لأنّ الحقَّ في المعنى المجرَّد من اللفظ لا في اللفظ الخاضع لطبيعة الحياة، وهذا يشعر بأنّ الحقائق مجرَّدةٌ وملقاةٌ في الطريق، وأنّ هذا الطريق واحدٌ تسيرُ فيه الطبقات الاجتماعية كلها، ولا أظنّ هذا الطريق إلا طريق الفطرة التي يتفق عليها الأعداء قبل الأصدقاء، ولذلك كان اهتمام المعتزلة باللفظ ليس لأنّه أهم بل لأنّه الوسيلة التي رضيت بها كل طبقة اجتماعية دليلا على ما هي عليه من صفات، وما هي فيه من سمات.

وكل ما سبق نقله الجاحظ عن صحيفة الهند التي فيها: "ومدار الأمر على إفهام كلِّ قوم بقدرِ طاقتهم".

وهذا يدل على أنّ فكرة التقسيم الطبقيّ ليست فكرةً عربيّة، بل فكرةٌ هنديّة أدخلتها الترجمة إلى الطبيعة العربيّة؛ لأنّ مقتضيات الترقي المادّي المدنيّ تنتج تراتبيّةً في المجتمع البشري يحدث بسببها تفاضل في العقول، واختلافٌ في المستعمل من الكلمات.

٢/ ١/ ١٤٤٣

١٠/ ٨/ ٢٠٢١

تاريخ النشر
08 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
08 ربيع الثاني 1445
التقييم