كل عمليّة فهم إما أنْ تبدأ من الحال، ثم المقتضى، ثم إنشاء الكلام، أو أنْ تبدأ من الكلام، ثم المقتضى، ثم الحال، وهي في الأولى مطابقةٌ حال المقتضى، وفي الثانية تفهّم حال المقتضى.
والسؤال المنتظر هنا: أين تقع البلاغة الإفهامية؟
وللجواب على ذلك أقول: إنها تقع في المرحلة الأولى؛ لأنّها المرحلةُ التي يلحظها المتكلِّم الذي ينوي نقل المعنى إلى الطبقة الجديدة، وهذه المرحلة لابد أنْ تكون المعاني على أقدار المستمعين، وأنْ تلبس من الألفاظ ما هو مستعملٌ ومتداولٌ بينهم، وأنْ ينزل المتن اللغويّ فيها إلى المستوى اللفظي الذي عليه أصحابُ الطّبقة، وأنْ تتسابق المعاني فيه مع الألفاظ، ومن مقتضيات المسابقة أنْ تكون معاني الخاصّة بألفاظ العامّة.
وتقع في المرحلة الثانية البلاغةُ البيانية التي تتجاوز حدود الإفهام إلى الإفحام، أو تتجاوز حدود الإفهام إلى التخييل والإيهام؛ لأنّها بلاغة تجتهد على تعديل التصوّرات في الأذهان ليحدث في النفس ما يريده المتكلِّم أو يشتهيه المخاطب من تلك الانفعالات.
ولو سألتني عن فرق ما بين البلاغة الإفهامية والبلاغة البيانية لوجدتني أشير إلى أنّ البلاغة الإفهامية تسعى لبناء التصورات وإنشائها، وتسعى البلاغة البيانية إلى تعديل التصورات وتوسيعها؛ لأنّ البلاغة الإفهامية بلاغةٌ غايتها أنْ تكون في خدمة المعرفة، والبلاغة البيانية غايتها أنْ تكون في خدمة الإنسان.
٢/ ١/ ١٤٤٣
١٠/ ٨/ ٢٠٢١