مما يهمّ في هذا المسار التنبُّه إلى وجهة نظر عبد القاهر عن الكلمة؛ إذ هي فيما يرى نائبةٌ عن الشيء الذي تشيرُ إليه، وهنا يظهرُ جزء من الثلاثية الجرجانية، وهو: الشيء المتكوّن في الواقع الذي يمكن الإشارةُ إليه.

ومما يشعرُ به ذلك أنّ الكلمة المفردةَ لا تنشأ بلا علاقةٍ إشاريّة تصلها بالشيء المتكوّن في الواقع الخارجي المحيط بالإنسان، ولذلك تصبح الكلمة المفردة ذات ثلاثة رؤوس: الشيء الخارجي المشار إليه، الكلمة في الذهن بوصفها تصورًا إشاريًّا نائبًا عن معلوم، والكلمة في الصوت بوصفها لفظًا منطوقًا.، وكأنّه يقول: إنّ الشيء لا يكون موجودًا بالكلمة بل هو سابق لها إلا أنّ المواضعة تسهم في إشاريّة الكلمات للمعلوم المتصوّر معنى في الأذهان.

وهنا تظهر لنا المرحلة الأولى من نظريةِ النظم وهي مرحلة أوليّة تمهِّد لمفهوم النظم الذي قدَّمه عبدالقاهر الجرجاني قيمةً إنسانيّة تفسِّرُ اتصال الإنسان بالعالم.

وإذا كانت الكلمات مفردةً أوضاعًا لغويّة فإنّ ضمّها لبعضها نواتج أخرى تنقلها عن أوضاعها اللغوية إلى أوضاعها الكلاميّة التي ترتبط بالإنسان، وهو يرى أنّ الألفاظ المفردة لم توضع إلا ليضمّ بعضها لبعض حتى يتحقق بذلك معانٍ تخرج من بينها أي: من الجزء البيني الذي يفسّر تواليها التعاقبي في النطق، وترتيبها الموضعي في القانون، وتنظيمها الانفعاليّ في النفس.

نحن في نظرية النظم ننتقل من الأجزاء الكلامية إلى النظر في الفراغ بين الكلمات، وهذا هو الجزء الذي وضع عبد القاهر ذهنه فيه فرأى أنّ هذا الفراغ يتكلّم بمعان لا نجدها في الألفاظ المفردة، وأنّ هذه المعاني البينية تؤديها النفس المتكلمة على ما يتهيّأ لها من الانفعال الذي هو ثمرة اتصالها بما حولها، وكأننا هنا نجد المعنى النظمي معنى ليس في الألفاظ، بل هو في الفراغات الموجودة بين الكلمات، وهي التي عبّر عنها عبد القاهر بالتعليق والضمّ.

والانفعال النفسي الذي تصدر منه المعاني هو ثمرة دخول الإنسان في الفراغ بين الألفاظ المفردة؛ لأنه حينها يريد أنْ ينتقل من شيئيات العالم إلى تفاعلات المجتمع،وهذا الانتقال يتطلُّب أمرين: منظِّمًا للألفاظ المفردة وهو النفس، ومكانًا لتفعيل نواتج التنظيم النفسي وهو المسافة بين الكلمات.

ويظهرُ مما سبق أنّ مرحلة النظم تتطلب: النفس، والفراغ، والمادة؛ النفس بوصفها آلةً لتنظيم العلاقات، وفراغًا بوصفه منطقة العمل بين الكلمات وهو التعليق، ومادةً هي الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، وبعد هذا ينشأ الكلام ويترتب على وفق ترتيب المعاني في النفس.

٧/ ١/ ١٤٤٣

١٥/ ٨/ ٢٠٢١

تاريخ النشر
08 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
08 ربيع الثاني 1445
التقييم