تُشعِر عناية البلاغيين بالمطابقة بين الكلام والحال أنّ الإنسان يعيش مرتين: مرة في واقعه، ومرةً في لغته، وثنائيّة العالم الإنساني الواقعي واللغوي تفسِّرُ كثيرًا مما نجده من اختلافات بين ما نراه وما نسمعه؛ لأنّ الرؤية جزء من الواقع والسماع جزء من اللغة.

ومن هذه القيمة لمبدأ المطابقة نظر البلاغيون إلى البديع بوصفه عالمًا لغويًّا ينقصه وجود مبدأ المطابقة، ولا يحظى بحكم الإجادة من فنون البديع إلا ما أشعر باتصاله بالعالم الواقعي؛ لأنّه حينها يؤدّي عملا في تحقيق مبدأ المطابقة.

وهنا يبتدرني سؤال: أين يمكنك أنْ تضع المعنى عندما قسمت العالم الإنساني إلى عالم واقعي وعالم لغوي؟ وأشعرُ أنني إذا وضعتُ المعنى في العالم الواقعي كنتُ أكثر اتفاقًا مع قول البلاغيين في تعريف البلاغة: مطابقة الكلام مقتضى الحال مع فصاحته.

وهذا التعريف يقدِّم ترتيبًا لعالمي الإنسان، فالأول دائما هو العالم الواقعي الذي نحتاجُ لطبيعتنا البشريّة ومحدوديّة اتصالنا بما حولنا أنْ ننقله إلى العالم اللغوي، ومعنى ذلك أنّ اللغة عبارةٌ عن آلةٌ تعويض تساعدُ الإنسان على الاتصال بعالمه الواقعي من خلال قوة التصور وضوابط التصديق.

والبلاغة بوصفها آلة تقع بين عالمي الإنسان: الواقع، واللغة. ومهمتها وضع المبادئ والمعايير والقوانين التي تضمن للإنسان وجودًا وفاعليّة في عالميه، وأقوى ما في الآلة البلاغية علم المعاني؛ لأنّه أقربُ أدواتها لقياس دقة انتقال الواقع إلى لغة أو صدق تعبير اللغة عن الواقع، ثم يأتي بعده علم البيان؛ لأنه علم يقدِّم لك أفضل الطرق الموضِّحة لعالم الإنسان الواقعي، فالتشبيه والاستعارة والمجاز والكناية دروبٌ في العقل البشري يستعملها ليحقق بها موقفه من الواقع، ويقدّم هذا الموقف بأمانةٍ واحترافٍ إلى من يتلقاه عنه، ولعل الجاحظ عندما نقل الأخبار عن جواب: ما البلاغة؟ كان يصمرُ في نفسه أنّ الواقع بكلّ ظواهره وماديّاته عبارةٌ عن معانٍ ملقاةٍ في الطريق، وأنّ البشريّة بكل تناقضاتها عبارةٌ عن ألفاظ، وأنّه لا تتحقق إنسانية الإنسان إلا بتفعيل إرادة الاختيار والانتخاب، ولذلك نبّه إلى أنّ الشأن في اختيار اللفظ وانتخاب ما يوافق المعنى.

٦/ ١/ ١٤٤٣

١٤/ ٨/ ٢٠٢١

تاريخ النشر
08 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
08 ربيع الثاني 1445
التقييم