قالوا في تعريف البلاغة أنها: مطابقة الكلام مقتضى الحال مع فصاحته.

والمطابقة من مفاهيم الجاحظ في البيان والتبيين، وهي كون اللفظ موافقًا للمعنى دالا عليه، فمطابقة المنطوق (اللفظ) المعنى، هي: دلالته عليه، أما المطابقة في النظم فهي كون الكلام (المعنى القائم بالنفس) مطابقًا لمفهوم الحال الخارجيّة وهو مقتضاها، فإذا كانت الحال تكذيبًا اقتضت أنْ يكون الكلام (المعنى القائم بالنفس) مؤكَّدًا، ولا سبيل إلى ظهور مطابقة المقتضى إلا بالتراكيب اللفظيّة التي هي صورةُ المعنى أي: صورة الكلام وليست الكلام، ولذلك جعلت مؤشرًا على تغيّر المعنى القائم بالنفس، أي: إنّ التغيّر في صورة المعنى أو العبارة، أو صورة الكلام مستمدٌّ من التغيّر في المعنى القائم بالنفس أو المسمّى كلامًا.

وهذا التّغيُّر سببه البحث عن مطابقة مقتضى الحال، أي: مطابقة التصريف النفسي للمفهوم القضوي، وهنا يصبحُ اللفظ خارجًا عن الإعجاز سواء قلنا: بالمطابقة على ما يقتضيه بيان الجاحظ؛ لأنّ المطابقة دلالة على المعنى، والكلام ليس المعنى؛ لأنّ الكلام مخلوق، وكذلك إذا قلنا بمطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته؛ لأنّ المطابقة لا تشمل الألفاظ التي هي أصوات وحروف بل الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وبهذا تكون المطابقة بين الترتيب الذي تقوم به النفس مع المفهوم الذهني لمقتضى الحال؛ لأنّ الحال الخارجيّة ينشأ عنها معنى قضويّ تستقبله النفس فتضع غرضها على أنْ تقوم ببناء المعنى من خلال الأوضاع اللغوية والمعاني النحويّة حتى ينتج عن صناعة المعنى صورة خارجيّة حادثة، يمكن أنْ نعرفَ من خلال هذه الصورة الكلام الذي لا يتجسَّدُ في أصواتٍ وحروف ويلزم منه الحدوث في المحدث عندما نذهب بهذا الفهم لدراسة الإعجاز في القرآن الكريم.

وهذا الموضوع الذي تحدثتُ فيه هو تفسيرٌ للآلة البلاغيّة في التفكير البلاغي العربي، وأنّ الجهود المقدَّمة في بيان محل الإعجاز في القرآن الكريم ألزمت البلاغيين النظر في تأسيس آلة البلاغة والنظر في نظام عملها، وأنّ هذا النظام إمّا أنْ يكون مطابقةً بين اللفظ والمعنى، أو مطابقة بين المعنى والمقتضى وفق الغرض المقصود.

وفي هذا ردٌّ على من ظنَّ أنّ التفكير البلاغي العربي قد ضعف أو جمد أو تقادمت أفكاره حتى إنها لا تصلحُ في زماننا هذا، وهذا من عجيب ما يُقال وآفة الرأي -كما يقول المتنبي- من الفهم السقيم.

تاريخ النشر
16 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
16 ربيع الثاني 1445
التقييم