يتراءى لي أنّ اهتمام المعتزلة بالبلاغة كان بسبب ما فهموه من الإعجاز في القرآن الكريم، وذلك أنّ الله تعالى تكلَّم بمعانٍ وألفاظٍ هي مما ألفه البشر بينهم وتكلموا به، وبان منهم الكلام بمثل القرآن.

وهذا الأمرُ أشار إليه بشر بن المعتمر في صحيفته، أعني: أن تفهم معاني الخاصةِ بألفاظ العامّة، وأنْ تتسابق المعاني نحو القلوب تسابق الألفاظ نحو الأسماع.

وكانت فكرةُ النقل بين الطبقات هي الأساس الذي دار عليه كتاب الجاحظ: البيان والتبيين، وزاد عليها أنّه نقل جواب كلثوم بن عمرو العتّابي عن سؤال: ما البلاغة؟ وشرح جوابه بأنّ ما زعمه العتّابي من أنّ البلاغة هي إفهام حاجتك مخاطبك ليس على الإطلاق، بل المقصود عند العتّابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء.

وهذه الزيادة عند الجاحظ وعي آخر استفاده من فكرتي: النقل، والتمايز اللفظي بين الطبقات؛ لأنّ الناس إذا كانوا طبقات في الوعي والإدراك فإنّ القوّة الكلاميّة متفاوتة ومتمايزةٌ في الهيئة والنظام.

والشيء العجيبُ أنّ القرآن الكريم فيه معاني البشر وألفاظ العرب، وقد وجدوا – العرب- في القرآن الكريم برهانًا ساطعًا على استحقاق الله تعالى الألوهية والربوبية والكمال، وأنّ هذا المتكلِّم إلهٌ قادرٌ أنْ يفعل ما يشاء في أي وقتٍ يشاء، وأنّه لا يُعجزه شيء من مخلوقاته إذ هو الذي أذن لهم أن يسمعوا كلامه بما يعرفونه من المعاني وما يستعملونه من الألفاظ، وبانَ لهم أنّ ما يتلوه النبي ﷺ هو كلام ربّ العالمين.

وفي ظنّي أنّ المعتزلة انتبهوا لما في القرآن من أنّ الألفاظ والمعاني معلومة معروفة مستعملة، ومنها تركّبت معانٍ كونيّة أيقظت غافل القلوب، وأذابت جامدها، وليس في القرآن مما لا يعرفه البشر شيء، ولكنّهم لا يقدرون أنْ يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرًا.

تاريخ النشر
06 جمادى الآخر 1445
تاريخ أخر تعديل
06 جمادى الآخر 1445
التقييم