يزخرُ التراث العربيّ بكثيرٍ من المؤلفات التي تكشفُ عن حركةِ العقل المدوِّن، ولأهميّة هذه الحركة العقليّة أنشأتْ كتبٌ حظيتْ باهتمام الدارسين؛ لأنّها تشبعُ مطلبهم الذي يدفعهم نحو القراءة والاطلاع.

ومن العلوم التي حظيت بحركةٍ عقليّة لم تستوعب أطرافها وعمقها علم البلاغة العربية أو المعرفة البلاغية العربية أو فن البلاغة العربيّة، وذلك أنَّ هذا العلم يشتملُ على قوانين يمكن تعميمها، ويستقي من علومٍ متعددة يمكن الاستفادة منها في تفعيل الآلة البلاغية، وينتج انفعالات وحدسيّات تمكّن من تفعيل الحكم الجمالي: تحسينًا أو تقبيحًا، والحكم اللغوي: صوابًا وخطأ، والحكم الاجتماعي: موافقة ومخالفة، والحكم الشخصي: جسارةً أو تقليدًا.

والمتأمِّلُ في تاريخ التدوين البلاغي يجدُ الحركة العقليّة بين ثلاثةِ عقولٍ، هي: العقلُ الباحث، والعقلُ المؤلِّف، والعقل الشارح.

وقد نبّه إلى هذه العقول الثلاثة د. إبراهيم الخولي وهو تنبيهٌ له حظُّه من النظر، وإبداعه في الاستيعاب؛ لأنّ الجهود البلاغيّة ليست جهودًا يمكنُ إحكامها في كتابٍ أو عدَّةِ كتب، وليست جهودًا يمكنُ وضعُ حدٍّ فاصلٍ فيها بين ما هو أصيل يبني غيره، وما هو فرعٌ يزهرُ عند سقاية أصله، بل تجدُ الجهود البلاغية موزَّعةً بين عقلٍ باحثٍ يصنعُ الفكرة ويذهبُ معها إلى أبعد غايتها، فتتوعرُ عليه المسالك، وتأخذ به الأفكار منعرجات اللوى، ويضيق به المكان فيدخلُ في جديدٍ ثم يعودُ إلى ما ترك؛ لأنّه يلاحق المادة التي تتكوّن منها فكرته، فيجتهد ويجهده العمل، وينقضي نفسه وقد وضع لمن هو على مثل ما هو عليه أصول ما بحث عنه لعلّ من يأتي بعده يكملُ الطريق.

ومن العقول الباحثة في البلاغة العربيّة الخليفة العباسي ابن المعتز الذي بدأ التدوين في كتابه: البديع، فجمع فيه ما هو أدخلُ في مفهوم البديع؛ لأنّ -في تقديري- حركة الإبداع الأدبي ظهر فيها تحوّلٌ من معايير انتهت بالباحثين إلى كشف (عمود الشعر العربي) إلى معايير تقوم على تحويل الإبداع الأدبي إلى مهنةٍ يتفرّغ لـهـا المشتغل بها، ويصبحُ مصدرًا من مصادر الثقافة، ومنبرًا من منابر التدريس والمتابعة.

ومن العقول الباحثة في البلاغة العربية عبد القاهر الجرجاني الذي تمخّضت جهوده العظيمة عن وضع نظرية النظم بعد أنْ كان غايةُ العمل الأدبي قياس القدرة المطابقية، والمحافظة على الوقت الكلامي؛ لأنّ المعاني ملقاةٌ في الطريق يعرفها كل ماشٍ، ومن أيِّ طبقةٍ كان، وهذا ما قفزت به نظرية النظم فجعلت المعاني معانٍ نفسيّة تتمهَّد الحياةُ لها بالمعاني المستفادة من الأوضاع اللغوية من خلال الولوج بالنفس إلى الفراغات الكامنة بين الأوضاع اللغوية المستقلة من خلال الضمِّ المبنيّ على تعليق الأوضاع اللغوية ببعضها على ما هو مستقرٌّ في المعاني النفسيّة التي هي أول بذور المعاني الاجتماعيّة التي انتقلت بها نظرية النظم من قارعة الطريق إلى النفس الإنسانية حتى يتمهّد الطريق للمعنى الديني الذي يحكم المجتمع، ويحظى بالقوة والسلطة على النفس والمكان.

والعقل الباحثُ عقلٌ يمتازُ بالتّوقدِ والتوجُّسِ؛ فالتّوقدُ يأتيه من أنه عقلٌ جوَّالٌ يجعلُ المعلومة مرتكزًا ينطلق منها إلى جذورها لعله يجدُ فيها عوامل تساعدُ على بعثها في مكانٍ آخر، وكذلك كان السياسيُّ ابن المعتز والنحويُّ عبد القاهر.

وثاني صفات العقل الباحث أنّه عقلٌ يتوجَّسُ ويتنبَّأ لما أودعه الله فيه من طراوةِ إحساسٍ بما سيحدُث أو يمكن أنْ يحدث، وهذا التوجس يتدفّق إليه من أنّه يملك سمعًا في قلبه يختلفُ عما في أذنيه، وهذا السمع الخفيّ يفسِّرُ كثيرًا من الانقطاعات التي تحدث في كتابات الباحثين الجادين الذي يرودون قفرًا من الأرض، وبيدًا بعيدةً عن الأنس مأهولةً بالوحش والفكر الجديد.

٧/ ١/ ١٤٤٣

١٥/ ٨/ ٢٠٢١

تاريخ النشر
09 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
09 ربيع الثاني 1445
التقييم