قدّم الفكر البلاغيّ العربيّ قيمتين لعالم الإنسان، إحداهما تضبط اتصاله بالعالم الخارجي وكانت هي أولى القيمتين ظهورًا، وهي قيمة المطابقة، وبدأت إرهاصات ظهورها مع المعتزلة عند عمرو بن عبيد وبشر بن المعتمر، وتبيّنت على يد الجاحظ الذي أثراها بالبيان والتبيين، أما القيمة الأخرى فظهرت على يد عبد القاهر الجرجاني في كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وهي نظريّة النظم التي اهتمّت بضبط اتصال الإنسان بواقعه النفسي.

وقد اتفق القائلون بالقيمتين على مركزيّة اللفظ العربيّ؛ لأنّه الطريق إلى فهم قيمة المطابقة بين الواقع الخارجي والكلام، وفهم قيمة النظم بين المعنى النفسي والكلام.

ومن المهم أنْ ننظر إلى أنّ الثنائية في المطابقة كانت أيسر من الثلاثية في النظم؛ لأنّنا في المطابقة نجد المعنى في العالم الخارجي واللفظ في العقل البشري، وغايةُ الأمرِ أنْ نحسن التعرُّفَ على المعنى الخارجي، ونهتمّ بضبط القوالب اللفظية على تلك المعاني الخارجيّة.

أما نظريّة النظم فإنها تنقل المعنى من الواقع الخارجي إلى الضمير الإنساني وتصبح ثلاثية تقوم ركائزها على: الواقع الخارجي، المعنى النفسي، اللفظ البشري.

وهذا الانتقال للمعنى من الخارج إلى الداخل يجعلُ الشأن ليس في ضبط قياسات اللفظ على المعنى بل يزيد على ذلك ضبط علاقات الألفاظ ببعضها؛ لأنّ الألفاظ ليست جزءًا مستقلّا عن الإنسان بل تعيش مع المعاني في النفس الإنسانيّة، وليست نظريّة النظم إلا تعبيرًا عن قوة الدهشة الإنسانية وفاعليتها اللغويّة في تصوير الواقع الخارجي حيث تشاء النفس التي تفهم علاقات الألفاظ ببعضها، وليس ذلك في قيمة المطابقة التي تهتم بحال الواقع الخارجي إنسانًا أو غيره، ومعنى ذلك أنّ جوهر الإبداع في قيمة المطابقة يقوم على صدق الوصف بينما في نظرية النظم يقوم على صدق الشعور.

٧/ ١/ ١٤٤٣

١٥/ ٨/ ٢٠٢١

تاريخ النشر
09 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
09 ربيع الثاني 1445
التقييم