قال عبد القاهر: "إنّ الخبر وجميع الكلام معانٍ يُنْشئها الإنسانُ في نفسه، ويصرفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويُراجِعُ فيها عقله، وتوصفُ بأنها مقاصدُ وأغراض".
في المقتبس السابق ينكشف أصلٌ عظيمٌ في نظريّة النظم، وهذا الأصل يدلُّ على أنّ المعنى ليس شيئا واحدًا، واالمعنى الموجود في النفس ليس مماثلا للمعنى الموجود في الوضع اللغوي، أي: إنّ المعنى المطابقي الذي دارت حوله أحاديث بشر وعمرو والجاحظ ليس المعنى النهائي الذي ينتجه الإنسان، بل هو المعنى الأوليّ الذي يُنشئ منه الإنسان عالمه الذي يتصوره في ذهنه.
وهنا شيئان: المعنى الموجود في الأوضاع اللغوية، والمعنى المنشأ بالتصرفات النفسيّة الفرديّة، وهو لُبُّ النظم الذي يتغلغل بسببه الإنسان بين الأوضاع اللغويّة لينتج منها المعنى النظمي الذي يواجه به أفراد جنسه، وتتحقق به مساحته التي تحمي وجوده، وحقيقته التي تنتقل مع ثباته، وتنشأ منه الأعراف الاجتماعية.
وانظر أيضًا في كلام عبد القاهر عندما قال: وتوصف بأنها مقاصد وأغراض. لأنّ وصف المعنى الذي تصرّفت النفس -من أجل إنتاجه- في المادّة اللغوية بقسميها: المعنى واللفظ، ليس معنى متصلا بالأشياء كالمعنى المطابقيّ الذي اهتمَّ به أرباب المطابقة، بل هو المعنى الناشئ عن الإنسان، وهو أول المعاني المتصلة بالوجود الفردي والاجتماعي.
إذن، المعنى المطابقي، والمعنى النظمي، ومعنى المعنى النظمي هي رحلةٌ علميّة كتبها علماء البلاغة العربية من أحلِ الوصول إلى حقيقة عمليّات التفكير في الوجود والإنسان والإله.
وبما أنّ معاني الكلام عند عبد القاهر معانٍ نفسيّة، فإنني أفهم من هذه القضيّة فيما يتصل بالأوضاع اللغوية والإنشاءات الكلامية أنّ المعاني تنقسم إلى:
- المعاني الموجودة في الواقع الخارجي، وهي التي اختلف فيها بين الإلهام والاصطلاح.
- والمعاني الموجودة في الواقع النفسي أو الواقع الذهني، وأميل إلى (الواقع النفسي)؛ لأنّ الذهن موطن التفكير الذي هو جزء من منظومة النفس التي تشعر وتفكر.
وهنا يظهرُ جوهر الاختلاف بين الجهود المنتمية إلى (بلاغة المتكلمين) الذين اهتموا بتأصيل طرق المطابقة، وكان عملهم منقطعًا للتفكير، والنقل، والإفهام.
والجهود المنتمية إلى (بلاغة الأدباء) الذين اهتموا بأصول النظم التي أولها إنشاء المعاني النفسيّة من أجل مطابقة الكلام مقتضى الحال مطابقةً تشمل نوعي الوجود: الوجود الواقعي الخارجي، والوجود النفسي الداخلي.
٨/ ١/ ١٤٤٣
١٦/ ٨/ ٢٠٢١