من أدلِّ الدلائل على اهتمام الجاحظ بالألفاظ أنّه سلَّط عمل الآلة البلاغية على الألفاظ فيما قاله عن البيان الذي هو: اسم جامع لكل شي‌ء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير... ثم علل ذلك بأنّ مدار الأمر على الفهم والإفهام بأي شيء كان ذلك الفهم والإفهام.

وهذه الشيئية ليست إلا الألفاظ أو قسيماتها من الإشارة والخط والحال والنصبة؛ لأنّ هذه الخمسة وسائل الآلة البلاغية التي تستعمل لكشف قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير.

واستعمال الجاحظ للفظة (قناع) تناسب ما أورده عن بلاغة الكتّاب من إحسانهم التعبير عن المعاني بالألفاظ الواسطة، وهذه إشارةٌ إلى أنّ الجاحظ ينظر إلى ما يمكن أنْ يحقق انتقال المعاني من قوم إلى قوم، ومن طبقة إلى طبقة وهو وسطٌ في نظره بين شيئيات العالم المحسوس ومعاني الدوالّ المشيرة إليها.

وكل عمل الجاحظ هنا هو في تحقيق مطابقيّة الأوضاع اللغوية؛ لأنّ سلامة المطابقة بين اللفظ والمعنى المعبَّر عنهما بالوضع اللغوي يقود إلى سلامة المطابقة بين الأوضاع اللغوية والتلقّي الإنساني لها.

وعند هذه النقطة التي تحقق الفهم والإفهام للمعاني الموجودة في الأوضاع اللغوية توقفت نظرية المطابقة حتى جاء عبد القاهر الجرجاني وانطلق بها من لحظة استقرارها في الذهن، أي: بعد الفهم والإفهام، لينتج لنا نظريته في النظم.

 وهذه النظرية تناقش التصرُّفات النفسيّة في حدود الذات الواحدة، وأنّ هذه التصرفات منها ما ينتجُ المعنى النظمي، ومنها ما يضع بين المعنى النظمي معنى ناقلا، وقد أوجز ذلك في عبارته البديعة: معنى المعنى.

ومعنى ذلك أنّ التصرفات النفسيّة في الأوضاع اللغوية تنتج معانٍ غائية في حدود ذات الإنسان، وهذه التصرفات إما أن تذهب إلى المعنى النظمي الذي هو الغائي عندها أو أن توسِّط بين المعنى الابتدائي في الوضع اللغوي معنى ناقلا كالذي هو حاصل في المعنى الكنائي الذي تكثر فيه الوسائطية، ويمكن أن نطلق عليه المعنى الوسائطي.

وهذا العمل من الجرجاني هو حقيقة استيعاب ما قاله السابقون ثم الانطلاق به نحو آفاق أخرى من التطوير والتحسين بالمناقشة لما مضى واختبار ما يمكن أنْ ينتجه كل تصريف من التصرفات العلمية.

وإذا كان الجاحظ قد اهتمَّ بنقل المعنى الموجود في الأوضاع اللغوية نقلا سليمًا مطابقًا فإنّ عبد القاهر الجرجاني اهتمَّ بتصرُّفات النفس الإنسانية بمعاني الأوضاع اللغويّة بعد تصورها لها، وأنَّ ذلك مكّنها من التصرف فيها وبها حتى إنك يمكنك أنْ تفهم الآن حديث النقاد المتقدمين -رحمهم الله- عن أسرار صناعة المعنى في الأدب.

9/ 1/ 1443

17/ 8/ 2021

تاريخ النشر
09 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
09 ربيع الثاني 1445
التقييم