المعاني التي تنشئها النّفس هي المعاني التي يمكنك التصرُّف بها عندما تكون متكلِّمًا أو متلقّيًا؛ لأنّ المعاني الناشئة من النفس المتكلِّمة تقابلها معانٍ أخرى تنشئها النفس المتلقّية، وكلُّ ذلك راجعٌ إلى ما تمتاز به النفس الإنسانية من أنَّها نفسٌ متصرِّفة تباين غيرها من الأنفس الحيوانية المسخّرة.
وهذه النشأة هي النشأة الثانية للمعاني أو لنقل هي صناعة المعاني في النفس، ومعنى ذلك أننا نقرُّ بإدخالنا الأوضاع اللغويّة السابقة على المعاني النفسية في داخل الإنسان ليتمكّن من التصرُّف بها وتصريفها تصريفًا يوافق أغراضه ومقاصده، وهنا نكون قد جعلنا المعاني في الأوضاع اللغويّة موادّ تصنيع المعاني النفسيّة، وأيضًا اكتشفنا أنّ تسمية المعاني النفسية أغراضًا ومقاصد أمرٌ يعود إلى الذاتيّة، ويمكن من خلال ذلك أنْ نفهم حقيقة الأعراف بوصفها معانٍ مشاركيّة تقفز فيها المعاني من ذاتيّة الإنتاج الفردي إلى نظام وسلطةِ المعاني العُرفيّة.
إذن، يظهرُ مما سبق أنّ المعاني ذات أطوارٍ متعددة، وقد بدأتْ بملاحظة العلاقة المطابقيّة في الأوضاع اللغوية، ثم انتقلت بالعلاقة النظميّة إلى التصريفات النفسيّة الذاتيّة، ثم انتقلتْ بالعلاقة المشاركيّة إلى ضرورة التراضي حتى تتأسس قاعدة التفاهمات بين الذوات المنتمية إلى دوائر لا تنهض إلا بوجود العُرْف.
ولعلّ المتأمِّل يجدُ في فكرة النفس المتصرِّفة أنها أسهمت في تطوير نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني؛ لأنّه لم يجعل المعاني والألفاظ مدار تفكيره، بل جعل الأوضاع اللغويّة بوصفها مواد العالم الذهنيّ الإنسانيّ، وإذا لم تحظ النفس الإنسانيّة بقدرةٍ متاحةٍ لـهـا على استقبال الأوضاع اللغوية بطريقة مغايرةٍ لمشيَّئاتها الخارجية فإنها -أي النفس- لا تصبح إبانيّة أو ناطقية أو كلاميّة، فالتَّصرُّف المتاح للنفس أمكنها من إعادة تشكيل العالم بغير موادِّه الحقيقية، بل أمكنها أنْ تصيِّرَ تلك الأوضاع اللغوية تصورات ذهنيّة تشير إلى أصلها الخارجي لكنَّها لا تتجذَّرُ فيه، وأصبح جذرها العميق هذه النفس التي جعلت تلك التصورات الذهنيّة مواد يمكنها أنْ تستفيد منها في إنشاء معانيها حتى تنطلق المعاني من عالم الوجود الطبيعي إلى عالم الوجود الاجتماعي.
٩/ ١/ ١٤٤٣
١٧/ ٨/ ٢٠٢١