من أدق قضايا بلاغة المتكلمين أنّ المطابقة عندهم شرطٌ في تشكيل الوعي الإنساني، وتظهر دلائل ذلك في حديثهم -وأعتمدُ هنا على كلام الجاحظ- عن حقوق المعنى؛ لأنّ إيتاء المعنى حقوقه مدار غايتهم في إفهام كل قومٍ بقدر طاقتهم.

ومن حقوق المعنى في بلاغة المتكلمين أمران:

١. مطابقة اللفظ للمعنى.

٢. موافقة الحال للمعنى.

ومن مفهوم حقوق المعنى عند المتكلمين أنّه الهدف في عمل الآلة البلاغية، ولذلك تجدهم يضعون في الوسط بين اللفظ والحال، أو أنْ يكون اللفظ خادمًا، وأنْ يكون المعنى محفوظًا عن كل حال حتى تبرز حالٌ موافقةٌ له، أي: المعنى ليس في خدمة الحال، بل الحال تبعٌ للمعنى.

ويتراءى لي أنّ المعنى في بلاغة المتكلمين أصلٌ من أصول الوجود؛ إذ لا وجود لو عُدم المعنى، والأشياء لا تكون أشياء متكوِّنةً حتى تحمل في أحشائها معناها، فالشجرة المشاهدةُ في الحياة تحمل في أحشائها معناها الذي وجد في وجودها، وهذا المعنى هو الملقى في الطريق الذي يعرفه كل أحد.

وفي حقوق المعنى أنّ الألفاظ موجودة بأكثر من قدر المعاني، ولكثرةِ الألفاظ صار الشأنُ في بلاغة المتكلمين اختيارَ اللفظ الذي يُطابق المعنى، وهذا لبُّ قول الجاحظ: "ولكل ضربٍ من الحديث ضربٌ من اللفظ، ولكلِّ نوعٍ من المعاني نوعٌ من الأسماء: فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجَزْل للجَزْل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال".

ويظهرُ من كلام الجاحظ السابق أنَّ المعنى أُسُّ الاتصال من أجل تشكيل الوعي، وكلُّ نوع من أنواع التواصل ينبغي أنْ يختار له ما يناسبه من الألفاظ التي تخدم المعنى، وأنّ كلَّ اتصال بينها لم يكن لولا المعنى؛ لأنّ أحاديث البشر عملٌ شريف ولا يتحقق شرفه إلا بمطابقة المعنى الملقى في الطريق.

وليس المعنى أصلا في الأحاديث فحسب، بل هو أصلُ ما يتفق عليه المتكلمون، فإذا تمَّ لهم اتفاقٌ حول المعنى سَهُل عليهم اختيار اللفظ المناسب له، ودليل ذلك أنّه نوع المعاني بين سخيف وخفيف وجزل، وجعل من حقوق المعنى أنْ يمل الاسم صفات معناه، وأنّه يمكننا قياس كثافة المعنى من معرفتنا بكثافة الاسم المختار له.

وكل ذلك يقتضي أنْ يكون المتكلِّم على علمٍ بما يقدم عليه من حديث فيأخذ لذلك حقه من التحضير والمراجعة قبل الدخول، وليس ذلك لأنّ موطن الاتصال بالناس أهم من المعنى، بل لأنّ المعنى أصلٌ ينبغي أنْ يُتأهَّب له، ويُفنى الوقتُ في اختيار ما يناسبه، وذلك مفهوم من كون المعنى ملقى في الطريق، أي: المعنى معروف للجميع، وعدم العناية باللفظ يقلب المعروف الواضح منكرًا غامضًا.

وكُلُّ ما قيل حول الألفاظ من حقوق المعنى، ووسائل خدمته هو وجهة نظر يُفسِّرُ فيها المتكلِّمون بالآلة البلاغية المطابقية عبارة: "لكل مقامٍ مقال".

١٠/ ١/ ١٤٤٣

١٨/ ٨/ ٢٠٢١

تاريخ النشر
09 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
09 ربيع الثاني 1445
التقييم