من ضرورات العلم والتعلُّم أنْ تصنّف الجهودُ السابقة في كلمات تطابق ما قُدِّم فيها، وقد نبّه على ذلك الجاحظ في عبارته: (ولكل نوع من المعاني نوعٌ من الأسماء)، وعبارته الأخرى: (فإنْ كان الخطيب متكلِّمًا تجنَّب ألفاظٌ المتكلِّمين، كما أنَّه إنْ عبَّر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا أو مجيبًا أو سائلا كان أولى الألفاظ به ألفاظُ المتكلّمين؛ إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحنّ وبها أشوف).

ومما انتشر في زمان العرب المتأخر لفظُ (مدرسة) من أجل تصنيف الجهود العلمية المبذولة في سياق معيّن، وتقودها أصولٌ واحدة.

وأول من فرَّق بين الجهود البلاغيّة العربية -فيما يظهر لي- طه حسين عندما قسمها إلى مدرستين: مدرسة المتكلمين ومدرسة الأدباء، معتمدًا على عبارة أبي هلال العسكري في كتابه الصناعتين عندما بنى كتابه على مذهب الأدباء لا على مذهب المتكلِّمين.

وفرقٌ ما بين الرجلين أنّ أبا هلال العسكري متأثرٌ بالفقه وطرائق الاختيار، أمّا طه حسين فمتأثرٌ بالصياغة النظاميّة المؤسساتيّة التي تدعو الطالب في أول سني عمره إلى المدرسة، ثم إذا اشتدّ إلى الجامعة.

وقد انتشر لفظ طه حسين في كتب البلاغة المتأخرة، واستعمله المؤلفون في كتبهم عن تاريخ البلاغة العربيّة؛ تسهيلا على شداة المعرفة، وتصنيفًا وتلخيصًا لجهود السابقين.

وبعيدًا عن مناقشة التسمية، ومعرفة حظِّها من المطابقة والدلالة والوفاء بجهود علماء البلاغة العربيّة فإنَّ المهم هنا أنْ نتحدَّث عن أصول الفرق بينهما.

وفرقُ ما بين مدرسة المتكلمين ومدرسة الأدباء في البلاغة العربيّة أنّ مدرسةَ المتكلمين غايتها الوصول إلى تحقيق الفهم في الذهن بألفاظ هي من مألوف المخاطب ومعهوده، وهم بذلك يأخذون من القرآن طريقته في تحقيق الفهم في أذهان العرب بألفاظهم، وهذا يعني أنّ سبل الفهم ليست في اختراع المعاني، بل في اختيار الألفاظ ومطابقتها للمعاني.

وغاية مدرسة الأدباء في البلاغة تحقيق فهم التصرُّفات النفسية بالأوضاع اللغوية للوصول إلى إدراك مقاصدها وأغراضها، وهم بذلك يأخذون من القرآن طريقته في اختراع المعاني من المعاني، والتّصرّف بالأوضاع اللغوية لأغراضٍ تتناسب مع كمال الربوبيّة وجلال الألوهيّة؛ لأنّ تصريف الأوضاع اللغويّة العربيّة أدهش العرب حتى وقع في قلوبهم الإقرار بأنّه ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وبأنّ له لحلاوة، وأنّ عليه لطلاوة، وأنّ أعلاه لمثمر، وأنَّ أسفله لمُغدِق وأنّه يعلو ولا يُعلى عليه.

والنظم أجلُّ ما جاءت به مدرسة الأدباء؛ لأنّه تعليق الكَلِمِ ببعضها، وما التعليق إلا كلمةٌ تشعرك بعمق التصرفات النفسية في صناعة المعاني الكلامية.

ويقابلهم أجلُّ ما جاءت به مدرسة المتكلمين وهو المطابقة؛ لأنّ المطابقة حكمٌ باختلاف اللفظ عن المعنى، وأنّ الآلة البلاغية آلةٌ تمكنك من مهارة تنسيق المعنى بألطف الألفاظ المطابقة له.

وهذه الآلة في مدرسة الأدباء تمكّنُك من إنتاج الكلام بصناعةِ معانٍ هي أكبر من معاني الأوضاع اللغويّة، وأنت إذا تمكنت من فهم أصول مدرسة المتكلمين في البلاغة تمكنت من فهم طريقة القرآن في الخطاب، وإذا أدركتَ أصول مدرسة الأدباء في البلاغة عرفتَ سرَّ انقطاع العرب العرباء وعجزهم عن معارضة القرآن والإتيان بمثله، وافتتانهم بآياته وسوره.

تاريخ النشر
10 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
10 ربيع الثاني 1445
التقييم