أشار د. إبراهيم الخولي إلى أقدم تعريفٍ دقيق للبلاغة وأنّه هو قولُ عمرو بن عبيدٍ المعتزليّ: "تخيُّرُ اللفظ مع حُسْنِ الإفهام"، وذكر أنّ تعريف عمرو لا تظهر فيه فكرة المطابقة بين اللفظ والمعنى، وهذا ينفي عن لفظة (التّخيُّر) أن تكون منبعثة من النظرة التي توازن بين ما ترى وما تريد إنتاجه بهيئة كلاميّة؛ لأنَّ التّخيُّر عندئذٍ ليس متصلا بفهم طاقات الألفاظ وقدراتها على مطابقة المعنى المراد نقله للآخرين، ولا يمكن المتكلِّم حينئذٍ أنْ يفيد العامّة معنى بما يتداولونه بينهم من ألفاظ.
ويشعرني صنيعُ المتكلِّمين واهتمامهم بشأنِ الألفاظِ أنَّ الآلة البلاغيّة لابد أنْ تفيد المخاطب إفادةً لفظية تبين له أنَّ المعنى الذي يتداوله الخاصَّة هو معنى موجودٌ في محيطه، وهو يعرفه ابتداء لكنّ سبب خفائه عليه يرجعُ إلى عدم تمكُّنه من إدراك اللفظ المطابق له، وهذا هو سبب تفضيل الجاحظ اللفظ، وعنايته بشأنه.
والتَّخيُّرُ والانتخابُ أصلُ المطابقة في بلاغة المتكلِّمين، وليس التَّخيُّرُ من أصول بلاغة الأدباء، بل أصل ما عندهم أنّ النفس تتصرَّفُ بالأوضاع اللغويّة تصرُّفًا يمكِّنُها من ترتيبها ترتيبًا يضيف إليها معاني تصرُّفها، وهذه المعاني تقع في المسافةِ الفارغةِ بين الأوضاع اللغويّة، وكلُّ ذلك قائمٌ على رؤية البلاغيين لموقع المعاني المقصودة بالكلام المعجز، فأصحابُ المطابقة يرونها ملقاةً في الطريق، وأصحابُ النّظم يرونها من تصرُّفات النفس.
والمتأمِّلُ في ذلك يظهرُ له أنَّ أصحاب المطابقة يبحثون عن جواب: هل أصاب أم أخطأ؟ وأصحاب النَّظم يبحثون في جواب: كيف قال؟ وإذا كان أصحاب النّظم ينطلقون في نظرتهم لأدبيّة الكلام من أنّه لابد فيه من المطابقة فإنّهم يعنون -فيما يظهرُ لي- مطابقة الكلام لما تصرَّفت فيه النفس من الأوضاع اللغويّة بعد أنْ مسّتِ النفسُ الحال الخارجة عنها وانبعثت من أثر احتكاكها بها، وليست المطابقة مطابقة للحال الخارجة عن النفس، ولذلك قالوا: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والمقتضى من اعتبارات النفس وآثارِ فهمها للحال الخارجة عنها، وبذلك يكون مناطُ الأدبيّة البلاغية عندهم في توفية المقتضى حقَّه من الكلام الذي تصرَّفت النفسية بأوضاعه الأولى، وتحقيق الفهم لما تريدُ النفس إيصاله، وهذه المطابقة عند المهتمين بالمطابقة من المتكلِّمين مطابقةٌ للحال الخارجة؛ لأنَّ المعنى في الخارج عن النفس لا في داخلها، وهنا يكون مناط الإفهاميّة البلاغية مرتبطًا بتحقيق الوعي بالخارج عن النفس.