اعتنى المتكلِّمون بالآلة البلاغيّة لأنها تمكِّنُ المتقن لها من الاتصال بالناس وتحقيق المقاصد والمحافظة على حقائق العالم فهمًا وإفهامًا.

والآلة البلاغية عند المتكلمين آلةٌ تنظرُ في مطابقة الألفاظ للمعاني لا مطابقة الألفاظ لمقتضيات الأحوال؛ لأنّ المعاني حقائق موجودة خارج النفس الإنسانية، بل ملقاةٌ في الطريق، ويشترك في معرفتها صغار الناس وكبارهم.

وما دامت المعاني مشتركة بين الناس وهذا من مقتضيات العدل فإنّ اختلاف الناس ناشئ عن اختلاف ألفاظهم عنها لا عن اختلافها في ذواتها؛ لأنها حقائق الوجود التي خلقها واجب الوجود.

وبفهمنا لموضوع مطابقة الألفاظ للمعاني يتضحُ انا فرق ما بين بلاغة المطابقة وبلاغة النظم؛ لأنّ المطابقة تشتغل في العلاقة بين المعنى واللفظ، والنظم يعمل في العلاقة بين الأوضاع اللغوية التي تنقسم إلى لفظ ومعنى من أجل إنشاء معان أخرى هي نتيجة التصرُّف النفسي، ولذلك لا تتم بلاغة النظم إنْ لم تقف على بلاغة المطابقة وتأخذ بأصولها وقضاياها، ولعل الجرجاني عندما ابتعد عن اللفظ لم يكن ذلك إلا بسبب ما حدث من عدم فهم الناس لبلاغة المطابقة وخطر إهمال فهمها، وفساد تفسيرها على غير ما وضعت له.

ومن آثار إهمال العناية بالألفاظ أنّه لا يؤدي إلى التباين بين اللفظ والمعنى، ولا يؤدي إلى الجهل بالمعنى، بل يؤدي إلى انقلاب المعنى.

وانقلاب المعنى من المفاهيم التي أشار لها الجاحظ في حكاية (نوادر المولَّدين)، وهذا يعني أنَّ المتكلِّم إذا أراد التَّحدُّث اليوم عن حال العرب في الجاهليّة وكان اعتماده على ما قيل عنهم في مؤلفات المعاصرين كان كالذي يحكي نوادر المولَّدين محقِّقًا الإعرابَ فيفسد النادرة بالإعراب، وهذا أمرٌ ظاهرٌ عند الجاحظ لأنه قاسه على إفساد اللحن كلامَ الأعراب.

ومن آثار انقلاب المعنى أنَّ الكلام يفقد هويّة صاحبه، وهذا من أصولِ البلاغةِ عند المتكلمين؛ لأنّ ضياع هويّة الناطق يؤدي إلى تداخل الطبقات الاجتماعيّة فيصبح المرء وهو لا يدري عمَّن يتلقى الحكمة، ولا يعرفُ الطبقة الاجتماعيّة التي صدر عنها الكلام، وأهمُّ ما في بلاغة المطابقة أنْ تتضح طبقات المتكلمين من اختلاف ألفاظهم.

وانقلاب المعنى ليس مرتبطًا بالصورة الكلاميّة التي ينطقُ بها الإنسان، بل مرتبطٌ باختيار الألفاظ وما يلحقُ بها من الإعرابِ والتحقيق والتثقيل؛ لأنّ اختيار لفظٍ لا يُطابق الناطقين به يفسدُ صورة الكلام التي يخرج بها.

وهنا يتضحُ لنا أنّ عناية المتكلمين بالألفاظ لم تكن إلا لأنّ عدمها يؤدّي إلى فساد كبير تظهر بعضُ آثاره في:

عدم مطابقة الكلام لصورة الطبقة الاجتماعية المتكلمة به، وعدم مطابقة الصورة الكلاميّة المنطوقة للمعنى الذي اختيرت له الألفاظ، ويصبحُ أمر اختيار الألفاظ لما لا تطابقه من المعاني عبثًا بموجودات العالم الخارجي، والمهم هو أنْ تحفظ الموجودات الخارجية بحدودها وهيئاتها حتى يمكن فهمها وإفهامها؛ لأنّ المعنى عند المتكلّمين هو حقيقة الشيء على ما هو عليه لا تصرُّف النفس كما هو الحال في بلاغة النّظم.

وأختم هنا بنصِّ الجاحظ الذي تحدّث فيه عن انقلاب المعنى ليكون ظاهرًا للقارئ أنّ المعاني غايات بلاغة المتكلمين، وأنّ الألفاظ سبيلهم نحو الغايات، وأنّ عدم التطابق بين اللفظ والمعنى يؤدي إلى فساد التصورات الذهنية عن الطبقات الاجتماعية والحقائق الكونيّة.

يقول الجاحظ: "وأنا أقول: إن الإعراب يفسد نوادر المتكلمين كما أنّ اللحن يفسدُ كلام الأعراب؛ لأنّ سامع ذلك الكلام إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج وتلك اللغة وتلك العادة فإذا أدخلت على هذا الأمر الذي إنما أضحكك بسخفه وبعض كلام العجميّة فيه الإعرابَ والتحقيقَ والتثقيلَ وحوّلته إلى صورة ألفاظِ الأعراب الفصحاء وأهل المروءة والنجابة انقلبَ المعنى من انقلابِ لفظه وتبدَّلت صورته".

تاريخ النشر
10 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
10 ربيع الثاني 1445
التقييم