ينمي الوعي في الاتصال البشري بالآلة البلاغيّة من خلال مذهبين:

١-مذهب المتكلمين الذين يتشكّل الوعي الاجتماعي عندهم بالألفاظ؛ لأنّ المعاني لا تتفاوت والألفاظ متفاوتة عند تطبيقها على المعاني.

٢-مذهب الأدباء الذين يتشكّل الوعي الاجتماعي عندهم بتكيفات المعاني النفسيّة التي تعمل في الفراغات الواقعة بين الأوضاع اللغوية، وهذا يشيرُ إلى أنَّ المعاني شيئان:

١-معان خارج النفس وهذه لا علاقة لها بالمزيّة البلاغيّة.

٢-معانٍ نفسيّه هي جوهر المزيّة الذي تشيرُ إليه نظريّة النظم -أو لنكن أكثر اتصالا بالتراث فنقول: بلاغة النظم- وموطن التفاضل؛ لأنّ المعاني النفسيّة تنشأ ومعها ألفاظها المطابقة لها، فصياغة الكلام عندهم تبعٌ لتصرّفات النفس.

وفرقٌ جوهريٌّ بين المذهبين يظهرُ من أنَّ الآلة البلاغيّة في مذهب المتكلمين يؤاخذُ عند الخطأ في عملها المتكلِّمُ الذي ينبغي له أنْ يعرف أقدار المعاني ويعرف أقدار المستمعين، وعليه أنْ يوازن بينهما بعرض المعاني التي تناسب مستمعيه، أي أن يكون للمعاني نظامٌ يمكِّنُ من تقييمها بالنسبة للمستمعين فلا يعرض عليهم إلا ما يطيقون انكشافه لهم منها.

ومعنى هذا أنَّ المعاني وإنْ كانت ملقاةً في الطريق ويعرفها كل أحد إلا أنّ بعض الطبقات الاجتماعيّة يوجد بينها وبين المعاني حجابٌ لا يُهتَك إلا بالألفاظ التي يألفها أصحاب الطبقة، ولذلك لابد أنْ يكون في وعينا تقييم للتناسب بين المعاني والطبقة الاجتماعيّة، وألا نهتك الحجاب بين بعض الطبقات والمعاني لأنّ ذلك قد يؤدي إلى انقلاب المعنى بسبب انقلاب الألفاظ أو عدم مطابقتها المعاني.

أما في مذهب الأدباء فالمؤاخذُ المخاطبُ الذي يجبُ عليه أنْ يأخذ نفسه بالتثقيف ليتمكّن من فهم تصرّفات النفس عند قراءة أيّ نص.

ومعنى هذا أنّ المتلقّي لابد أنْ يكون ذا دربةٍ وثقافةٍ تمكّنه من معرفةِ أصول المعاني الخارجة عن النفس حتى يدرك الكيفيّات التي تنتج بها النفس معانيها.

والمعاني في بلاغة النظم ليستْ معرفةً مشتركةً بين الناس كالمعاني في بلاغة المطابقة، بل هي ميدانٌ من ميادين التنافس في الإبداع والجودة؛ لأنّ الإبداع في بلاغةِ النّظم ليس في تصرَّفات النفس بالمعاني بل في معرفة كيفية تصرُّفات النفس بها.

ولابد من التنبه إلى أنَّ الكشف مفهومٌ قارٌّ في بلاغة المطابقة وبلاغة النظم والفرق بينهما أنّ الكشف في بلاغة المطابقة كشفٌ للمعنى الذي يناسبُ الطبقة الاجتماعيّة وليس كشفًا لكل معنى؛ لأنّ بعض الطبقات الاجتماعيّة ينقصها معرفةُ اللفظ الكاشف للمعنى وخيرٌ لـهـا أنْ تبقى جاهلةً باللفظ حتى لا تقع في ضرر.

والكشفُ في بلاغةِ النّظم كشفٌ لتصرُّفات النفس المنتجة للمعاني من الأوضاع اللغويّة السابقة معانيها على معاني النفس؛ لأنّ كشف تصرّفات النفس يوثِّقُ جسور التواصل بين الأطراف المتكلِّمة، ويسهمُ في إنشاء النصوص المتقابلة؛ لأن النصوص المتقابلة لا تنشأ إلا بوجود الفهم والإفهام بين الطرفين وليس هو الفهم والإفهام للفظ والمعنى في بلاغة المطابقة، بل فهمٌ وإفهامٌ لتصرُّفات وتكييفات النفس للأوضاع اللغويّة من أجل إنتاج المعاني النفسيّة وترتيب الألفاظ وفق ترتيب المعاني النفسيّة.

تاريخ النشر
10 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
10 ربيع الثاني 1445
التقييم