الصورة الكلامية في بلاغة المطابقة مغايرةٌ للصورة الكلامية في بلاغة النظم من جهة أنّ بلاغة المطابقة تريد تحقيق الوضع اللغوي المناسب للمعنى، وليست المزيّة في اللفظ من جهة كونه لفظًا له معنى، بل من جهة أنّه لفظٌ اختير وفُضِّل على غيره لتطابقه مع المعنى، ولذلك إذا صلح للمعاني ألفاظها المختارة لها خرج الكلام على صورةٍ بليغة.

أما الصورة الكلامية في بلاغة النظم فأنّها تريد تحقيق التوفيق بين مقاصد الكلام وأغراض المتكلّمين وهذا شيء لا يتمُّ بالأوضاع اللغويّة؛ لأنّ المعاني المقصودة بالنظر هي المعاني الناتجة عن التصرُّفات النفسية بالكيفيات الكلامية المخصوصة، ولذلك لا تتحقق بلاغة النظم إلا في الصورة الكلامية لاشتمالها على الأوضاع اللغوية والتصرُّفات النفسيّة التي تنتج الصورة الكلاميّة بكيفية مخصوصة.

وهنا يصبح عندنا نوعان من الصورة الكلاميّة؛ نوع ترجع مزيته إلى اختيار ألفاظه لتناسبها مع الموضوع والطبقة المخاطبة، ومطابقته للحقيقة الموجودة خارج النفس، ونوع ترجع مزيته إلى صورته الكلاميّة لأنها كيفية كلاميّة تصرَّفت بها النفس وفق المعاني التي تتوافق مع أغراضها وتنبني على مقاصد الكلام.

ويظهرُ أنَّ بلاغة المطابقة أشيعُ في القضايا العلميّة؛ لأنّها تلتزم بحدود المعنى، وبما يناسبه من الألفاظ، ولذلك كلُّ كثافةٍ في اللفظ هي نتيجة لنوع من المعنى جيء باللفظ على تلك الكثافة لأنّه مطابقٌ له، ومن الأمثلة على ذلك أنّ الجصاص في أحكام القرآن أشار إلى أنّ اختيار لفظ (أُحصرتم) في قول الله تعالى: (فإنْ أُحصِرتم فما استيسر من الهدي) يدلُّ على أنّ معنى الإحصار يشمل كل ما يؤذي الإنسان من مرضٍ أو عدو، وأنَّ سبب نزول الآية وإنْ كان في الحديبية والإحصارُ كان بسبب العدو إلا أنّ اختيار لفظ (الإحصار) بدل (حصر) يشيرُ إلى سعة المعنى المراد في الآية بناء على اختيار صيغة (أحصر) دونَ (حصر).

أما بلاغة النظم فإنَّها أقربُ للأدب الذي تنسج نصوصه وفق المعاني النفسيّة على كيفيّات مخصوصة يمكننا النظر فيها إلى مطابقة الصورة الكلامية للحال التي وقعت فيها النفس وأثارتها فاقتضت تلك الحال صورةً كلاميّة تهيَّأتْ لها النفس وأخرجتها بتلك الصورة التي روعي فيها مقاصدُ الكلام وأغراض المتكلِّم، ولذلك تجد نفسك عندما تستعيرُ شيئا لشيء فأنت لا تتطابقُ ألفاظك مع المعاني الخارجيّة، بل تتطابق مع الحالة النفسيّة التي تصرَّفت بالأوضاع اللغوية حتى أنتجتها بكيفيات مخصوصة.