يتراءى لي أنّ بيان الجاحظ وبيان الجرجاني ليسا في التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والمماثلة، بل يكمنُ البيان الجاحظي في الاختيار، ويقع سرُّ البلاغة ودلائل الإعجاز في التصريفات الإضافيّة.
وأنت إذا قرأتَ: وجهٌ كالشمس. فإمّا أن تنطلق في الآلة البلاغيّة من اختيار (الكاف) واختيار (الشمس) وهنا تكونُ جاحظيَّ الكشف، أو تنطلقُ في الآلة البلاغيّة من الكيفية الكلاميّة المحذوف أولها نحويًّا وآخرها بلاغيًّا وهو (التشبيه المجمل) وحينئذٍ تكون جرجانيّ التحليل.
والبيان الجاحظيّ يقوم على الكشف عن المعنى باللفظ المميَّز المختار؛ لأنّ المعاني -وإن كانت مشتركة- فالألفاظ متباينة بتباين الجماعات المتكلِّمة فليست القصيدة أدبًا حتى تكشف لك عن المعنى بالألفاظ التي يختارها صاحبها؛ لأنها ألفاظ اجتماعيّة قبل أنْ تكون ألفاظًا فرديّة.
والتحليل الجرجانيّ يقوم على تحليل المعاني المضافة بين الأوضاع اللغويّة؛ لأنّ الأوضاع اللغوية مواد الصناعة الكلاميّة المعجزة، وبذلك تكون الكيفيات الكلاميّة فرديّة ليست نتاج تأثيرٍ اجتماعيّ، ولا يمكن تجاوز الفرد من خلالها إلى معرفة الجماعات المتكلِّمة؛ لأنَّ الكيفيات الكلاميّة في بيان الجرجاني خصوصيات فرديّة يتجاوز بها الفرد مستوى لغةُ الإفهام المتداولة بين أفراد الجماعة المتكلِّمة.