الصورة الكلاميّة عند أصحاب المطابقة والنظم ليست كلامًا إلا بما سبقها من الاختيار في المطابقة والتصريف النفسيّ في النظم، وهذا يشعرني أنَّ تفسير الكلام عندهما ليس بالصوت والحروف، بل بشيء آخر ليس له صوتٌ أو حروف، وهذا توجُّهٌ عقديٌّ.

قال عبد القاهر الجرجاني: "ويزدادُ تبيانًا لذلك بأنْ يُنظَرَ في القائل إذا أضفتَهُ إلى الشعر فقلتَ: امرؤ القيس قائل هذا الشعر: من أين جعلته قائلا له؟ أَمِنْ حيثُ نطقَ بالكَلِم وسمعتَ ألفاظَها من فيه، أم من حيث صنع في معانيها ما صنعَ وتوخَّى فيها ما توخَّى، فإنْ زعمتَ أنَّكَ جعلته قائلا له من حيثُ إنه نطق بالكلم وسمعتَ ألفاظها من فيه على النّسق المخصوص فاجعل راوي الشعر قائلا له فإنّه ينطق بها ويخرجُ من فيه على الهيئة والصورة التي نطق بها الشاعر".

وهذا مذهبٌ كلاميٌّ في إثبات أنّ الكلام هو ما قام بالنفس وليس ما نطق باللسان مستوفيًا صورته الكلامية، وهو يشبه رأي أصحاب المطابقة الذين جعلوا الكلام اختيار الألفاظ المطابقةِ للمعاني، وليس الصورة الكلامية المنطوقة، وكلا الفريقين يفسِّرُ الكلام بغير الصورة الكلاميّة المنجزة، بل بما يسبقها من اختيار عند المطابقيين أو تصريف عند النظميين، وهذان الرأيان يأخذان في اعتبارهما البُعدَ عن منح الصورة الكلاميّة المنجزة صفة (كلام)؛ لأنها لا تنجز إلا بصوت وحروف، وهذا يدخلهم في إلزامات فرُّوا منها.

وهذا مما يوجبُ على الدارس لعلم البلاغة العربيّة أنْ يكون عالمًا أو متعلِّمًا للعقيدة وما في مباحثها من العلم الغزير الذي يمنح الدارس في البلاغة متانةً ووضوحًا.

ولعلّ وضعهم البديع ملحقًا بعلمي المعاني والبيان اعترافٌ بأنّ المعنى هو أصلُ اشتغالهم؛ إذ به يمكن أنْ يكون الكلام كلامًا كما عند الأشاعرة، ويمكن أن يجعل الكلام كلامًا عن المعتزلة إذا كان مدلول مسماه ومن هنا اشتغل المعتزلة على الاختيار لاتصاله بالمطابقة التي تجعلُ المعنى مدلول المسمى، واشتغل الأشاعرة على المعنى الإضافي لاتصاله بالتصريف النفسي.

تاريخ النشر
11 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
11 ربيع الثاني 1445
التقييم