سمّى الجاحظ الوحدات اللغويّة التي ننطقها صورةً كلاميّة وتبعه على ذلك عبد القاهر الجرجاني، وقد أدّى ذلك إلى أنْ يكون ناتج هذا الموقف أنّ البلاغة ليست في الوحدات اللغوية، بل في العمل الذي نتجت منه الصورة الكلاميّة، أي: الكلام في الاختيار الذي يطابق اللفظ به المعنى، والكلام عند عبد القاهر الجرجاني في النفس، وما هذه الوحدات اللغويّة إلا كيفيات الترتيب الذي تصرّفت فيه النفس.

ومن هنا يمكن أنْ نجد السبب الذي دفع النظميين إلى استثناء البديع من جوهر المزيّة؛ لأنّه ليس معنى إضافيًّا يجمع بين معاني الأوضاع اللغوية ومعاني النحو البينية.

وقد سمّى عبد القاهر الجرجاني ما هو فيه من توخّي معاني النحو بأنّه "فيما لا يكون الكلام كلامًا إلا به"، ومعن ذلك أنّ كيفيات البديع ليست كلامًا لارتباطها بالوزن، والوزن لا يعرف إلا بصوت، والكلام إذا دخل في تعريفه اللفظ لزم عليه أنْ يكون القرآن الكريم كلام الله تعالى لفظًا ومعنى.

واختار عبد القاهر الجرجاني أنْ يشرح فكرته معتمدًا على ما يلي:

١- القصد الذي من خلاله ترتب النفس الأوضاع اللغوية.

٢- الترتيب وهو عمل النفس معتمدةً فيه على المعاني النحويّة حتى تنتج المعاني الإضافية.

٣- الصورة والصنعة الكلاميّة وهي العبارات الملفوظة.

٤- الصورة والصنعة الكلاميّة لم تكن إلا بسبب الترتيب النفسي.

٥- أنّه لابد من النظر في قصد المتكلم من الصورة الكلاميّة.

٦- أنّ النظر في قصد المتكلّم يدلنا على موطن الكلام أفي الألفاظ أم في معانيها؟

٧- أنّ الكلام لا يسمى كلامًا إلا بما قام فيه من ترتيب لا ما انتهى إليه من صورة، وهذا مثل حال الفضة والذهب والإبريسم، "فكما لا يشتبه الأمر في أنّ الديباج لا يختصُّ بناسجه من حيث الإبريسم، والحلي بصائغها من حيث الفضة والذهب، ولكنْ من جهةِ العمل والصنعة، كذلك ينبغي ألا يشتبه أنّ الشعر لا يختص بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة".

ويزداد موقف عبد القاهر الجرجاني من البديع عندما يتحدَّثُ عن أنّ الكلام لا يشكُّ عاقلٌ إذا نظر أنه ليس تلك الألفاظ في الصورة الكلاميّة؛ لأنّ المتصوَّر أنْ يكون مقصودًا في الألفاظ هو الوزن، "وليس من كلامنا في شيء؛ لأنّا نحنُ فيما لا يكون الكلام كلامًا إلا به، وليس للوزن مدخلٌ في ذلك".

وهنا يكون نفي عبد القاهر الجرجاني لاسم الكلام عن الألفاظ؛ لأنها أصواتٌ، والكلام ليس إلا تلك المعاني النفسيّة التي أضيفت على الأوضاع اللغوية بمساعدة المعاني النحويّة، ولذلك يرى أنّ الألفاظ في صورتها الكلاميّة مخصوصةٌ بالوزن وما هو شبيهٌ به من التنسيقات الصوتية الحادثة بالسجع والجناس، وهنا يظهرُ لك أنّ عبد القاهر الجرجاني يبتعدُ عن جعل الصورة الكلاميّة كلامًا لوجود الصوت فيها، والصوت حادث، والحادثُ لا يحلُّ في المحدث.

ويردُّ عبد القاهر الجرجاني قول من يقول بتوزيع الحسن بين اللفظ والمعنى، وأنّه لم يفهم قول نقاد الشعر الذي فصلوا بين اللفظ والمعنى ووصفوا بالحسن اللفظَ كما وصفوا المعنى، ويرى أنّ نسبتهم الحسن والنبل والشرف للألفاظ جهلٌ بمقصد نقاد الشعر.

ويرى أنّ نقاد الشعر وصفوا اللفظ بالحسن لا لذاته، بل لأنّه صورةُ المعنى، وهذا نهجٌ كلاميٌّ يسلب الكلام الملفوظ كلاميّته ويجعل كلّ ما فيه ليس له، بل للمعنى القائم بالنفس، وهو المعنى الإضافي الذي كان نتيجة تصرُّف النفس بالأوضاع اللغوية والمعاني النحويّة.

وبعد هذا كله يجب التنبُّه إلى أنّ بعض القضايا التي يظنّ أنها من مذهب الأدباء هي من صميم مذهب المتكلمين، وأنّ ما تحدث عنه الجاحظ في بيانه وجعله باسم الصورة الكلامية هو ذات الشيء الذي تحدث عنه عبد القاهر الجرجاني وسماه بالصورة الكلامية أو الصنعة الكلامية.

ولابد من التنبُّه إلى أنّ الصورة الكلامية بينهما ليست كلامًا، بل هي صورة الاختيار العقلي عند الجاحظ، وصورة التصريف النفسي عند عبد القاهر الجرجاني، وأنهما اعتمادا في ذلك على مذهبهما الكلامي في نزع اسم الكلام عن مجموع اللفظ والمعنى وجعلها في المعنى؛ لأنّ ذلك يحقق لهما نفي الصوت والحدوث عن الله تعالى بتأولات ولوازم ينبغي أنْ تناقش آثارها على التفكير البلاغي.

تاريخ النشر
16 ربيع الثاني 1445
تاريخ أخر تعديل
16 ربيع الثاني 1445
التقييم